بحلول عام 1570 كانت إنجلترا معزولة تماماً عن أوروبا، بالإضافة لكونها جزيرة منفصلة عن القارة، إلا أن مقاطعة الكنيسة الكاثوليكية ونبذ الملكة إليزابيث الأولى عن طريق بابا الفاتيكان، جعل المملكة البروتستانتية تعاني من التبعات الثقافية والاقتصادية والتجارية، ما هدَّد بفناء إنجلترا ودخولها في نفق مظلم، فما كان أمامهم إلا حل واحد، التواصل مع أعداء الكنيسة في الشرق، وقيام تحالف نسيه التاريخ.
التحالف التجاري
رغم رفض الكنيسة الواضح والقاطع للتعامل والتجارة مع غير المسيحيين، والتهديد بنبذ من يخالف الأمر، فإن بعض التجار الأوروبيين انخرطوا في تبادل السلع، مع موانئ شمال إفريقيا في المغرب وتونس والجزائر، في هدوء، وبشكل سري، حتى لا يلفتوا أنظار الكنيسة، وساعدهم في ذلك تغاضي مدينة البندقية التجارية، التي استفادت أيضاً من حركة البيع والشراء على الساحل.
أما في الجانب الآخر من العالم فكان أحد أشهر المخالفين تاجر منسوجات إنجليزي يُدعى "أنتوني جنكينسون"، يتاجر في حلب كمحطة في طريق الحرير الشهير، والتقى بالسلطان العثماني "سليمان القانوني" في 1535 تقريباً، ونجح جنكينسون في تأسيس أول امتيازات تجارية على الإطلاق للإنجليز للتجارة بحُرية في الأراضي العثمانية، وعند عودته إلى إنجلترا تم تعيينه كأول ممثل لشركة تجارية جديدة، وتم إرساله للتجارة مع شاه إيران وحاكم الدولة الصفوية، وازدهرت التجارة معهم لفترة وجيزة، لكن التكاليف المالية لمثل هذه التجارة بعيدة المدى (كانت تتم عبر روسيا) جعلتها غير مستدامة.
لكن كل تلك التجارة كانت تتم بشكل غير رسمي، أو بدون موافقة صريحة من حكام إنجلترا، حتى أواخر سبعينيات القرن السادس عشر حين بدأت "إليزابيث الأولى" ومستشاروها في تشجيع التجارة مع المسلمين علناً، وفي عام 1578، قام أحد كبار مستشاري الملكة إليزابيث، السير "فرانسيس والسينجهام"، باقتراح أن ترسل إليزابيث سفيراً دائماً إلى القسطنطينية لإنشاء تحالف تجاري وسياسي مع الإمبراطورية العثمانية وحاكمها السلطان "مراد الثالث".
رحب السلطان بالعلاقات مع إنجلترا، وفي العام التالي، بدأ تجار إليزابيث في نقل الخردة المعدنية إلى القسطنطينية، والتي تم تحويلها بعد ذلك إلى ذخيرة لحروب العثمانيين مع إسبانيا الكاثوليكية والفرس، حيث كثرت المعادن في إنجلترا من الأسطح والأجراس التي جُردت منها الكنائس والأديرة الكاثوليكية، بعد أن تم منعهم من العمل والتضييق عليهم.
وتم توقيع اتفاقية ما أطلق عليه "Capitulations"، والتي مكنت التجار الإنجليز من العمل بحرية في جميع أنحاء الأراضي العثمانية، ومنحهم أسعاراً مخفضة على الرسوم الجمركية، وكذلك حماية أي إنجليزي يهاجمه الكاثوليك أو المسلمون، كما يتم تعيين ممثلين أو سفراء إنجليز عبر الإمبراطورية العثمانية، وظلت الاتفاقية سارية حتى عام 1922 عندما سقطت الإمبراطورية العثمانية في النهاية.
كما واصلت إليزابيث دعم التجارة مع المغرب وحاكمها "أبو العباس أحمد المنصور"، وفي عام 1585، دعمت إنشاء شركة تجارية تربط البلدين، ما أضفى الطابع الرسمي على التجارة القديمة، قام المغرب بتبادل الذهب والسكر مقابل القماش الإنجليزي والمعادن والملح الصخري، كما استمرت التجارة مع بلاد فارس بشكل متقطع، وحصلوا على السكر والحرير والبهارات والسجاد الفارسي.
تحالف سياسي-عسكري؟
منذ وصول الملكة إليزابيث الأولى إلى عرش إنجلترا في 1558، وهي في حالة عداء وما يشبه الحرب الباردة، مع زوج شقيقتها الراحلة ماري "فيليب الثاني" ملك إسبانيا، فقد أراد فيليب إعادة إنجلترا إلى كنف الكنيسة الكاثوليكية بالقوة إذا لزم الأمر، كما كانت تعتبر إسبانيا أقوى دولة في العالم وأوروبا بعد اكتشاف العالم الجديد، فرأى فيليب نفسه المدافع عن الكنيسة وأراد بسط سيطرته على الجميع.
وبعد استفزازات إنجليزية تمثلت في السماح للقراصنة المكلفين من الحكومة، بمهاجمة القوافل والموانئ الإسبانية في الأمريكتين، والاحتفاء بهم كأبطال في إنجلترا، بالإضافة الى توقيع اتفاقية لمساعدة هولندا على الاستقلال من الحكم الإسباني، قرر حينها فيليب صب جام قوته وثروته، والتجهيز لأسطول ضخم واحتلال إنجلترا والتخلص من إليزابيث، فيما عُرف بـSpanish Armada، فحاولت إنجلترا إقناع السلطان العثماني بالمساعدة.
أرادت إليزابيث إقناع مراد الثالث بالتحالف ضد الأسطول الإسباني في البحر الأبيض المتوسط، في محاولة لتعطيل خطة الغزو والأسطول الذي أبحر بالفعل، لكن لم تنجح مساعيها لأن العثمانيين لم يكونوا مهتمين بمحاربة الإسبان لمجرد إرضاء الانجليز، ولن تنفعهم هذه المواجهة في شيء، خصوصاً مع المبالغ الضخمة التي سيكلفها التدخل في النزاع، رغم ذلك، فقد نجحت إنجلترا في التخلص من اتفاق سلام تركي-إسباني، وهو ما ضمن استمرار العلاقات.
وبعد نجاح إنجلترا في هزيمة الأسطول الإسباني الضخم، استغل ملك المغرب العداوة القائمة ضد إسبانيا، عدوه اللدود، وأرسل وفداً على رأسه سفير خاص للملكة إليزابيث في 1600، هو "عبد الواحد بن مسعود بن محمد عنون"، الذي قضى 6 أشهر في لندن، تفاوض خلالها على غزو مشترك لإسبانيا، رغم فشل المفاوضات بسبب مماطلة الطرفين.
الإسلام يصل أوروبا
كانت أخبار الإسلام قد وصلت بالفعل أوروبا، بعد الحملات الصليبية والأعوام الطويلة من الصراع، ومن التعامل الأوروبي مع الأندلس، فإن صورة الإسلام كدين سماوي متكامل لم تكن واضحة هناك، حتى إن نسبة كبيرة من الأوروبيين كانت تعتقد أنه دين وثني، أو فئة مهرطقة من المسيحيين أو اليهود الأوائل، وحتى لم يكن لفظ مسلم معروفاً هناك.
ومع سقوط القسطنطينية وصعود الدولة العثمانية كقوة عظمى، مثل ذلك تهديداً لأوروبا المسيحية، وتشاركوا العدائية تجاه بعضهم البعض، حتى قام هنري الثامن ملك إنجلترا بفصل مملكته عن الكنيسة الكاثوليكية في روما، بين أعوام 1532: 1535، وتبنى المذهب الإصلاحي أو البروتستانتية، ووجد حلفاءه يتساقطون من حوله وأعداءه يتحدون حول البابا، فحاول التحالف مع العثمانيين، لكن لم يُقدر للتحالف أن يرى النور.
ثم تغير كل شيء في عهد ابنته الملكة إليزابيث الأولى، ومع حركة التجارة المستمرة حط المسلمون لأول مرة في الأراضي الإنجليزية، وتبادلوا العلاقات ودمج الثقافات مع الإنجليز المسيحيين، أهمهم السفير المغربي الذي ترك أثراً كبيراً في إنجلترا، ويُعتقد أنه ألهم مسرحية Othello للكاتب الكبير وليام شكسبير.
إلا أن العلاقات انتهت مع وفاة الملكة إليزابيث الأولى، وتولى جيمس الأول عرش إنجلترا، والذي أقام سلاماً مع الفاتيكان والكاثوليك، ووقع ما سُمّي "سلام لندن" في 1604، ومعه قلّ الاهتمام بالعالم الإسلامي حتى انتهى تماماً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.