حتى وإن استيقظت حكومة الرئيس ميقاتي من غيبوبتها فهذا لا يعني إطلاقاً أنها تعافت من تأثير إبرة البنج التي وخزتها بها "الميثاقية" بعد أيام قليلة على تشكيلها، بل سيبقى المخدر ساري المفعول إذا ما تعلق الأمر بمعالجة الانهيارات المالية والنقدية والاقتصادية في عهد دخل أشهره الأخيرة، وجل ما أنجزه هذا العهد هو أنه درَّب الدولار على الرقص في الأسواق اللبنانية، وتراخى في ضبط حدود البلاد حتى أضحى الكبتاغون فاكهة تُصدَّر عبر المرافئ اللبنانية وشاحنات النقل الخارجي إلى الخليج وغيره من الدول بكميات جعلت المرء يظن أن معظم السهول اللبنانية مزروعة بهذه الفاكهة.
لماذا عاد شمل الحكومة ليجتمع مرة أخرى؟
كثيرة هي التحليلات التي تُجمع على أن أسباب تعويم الحكومة أسباب خارجية ترتبط بمباحثات فيينا حول الملف النووي الإيراني، أو نتيجة لبعض التغيرات الإيجابية التي طرأت على العلاقات السعودية-الإيرانية مؤخراً، لكن هذه التحليلات هي مجرد تمرينات ذهنية في عالم الخيال؛ لأن لبنان وإن كان يمتلك معطيات طبيعية ومناخية ليكون دولة ووطناً، فإن مرض العفن الطائفي الذي يصيبه جعل منه أرضاً صعبة على سكانه؛ لذلك بات بلداً لا وزن له فيما يجري في المنطقة.
أما ما نشهده من اهتمام دولي به فيرجع لسببين؛ أولهما هو الخوف من أن يتحول هذا البلد إلى مصدر موجات من الهجرات الجماعية، وثانيهما هو البحث عن وسيلة لإيصال المساعدات إلى شعبه المنكوب بطريقة من خلالها لا يستطيع مسؤولوه نهبها، نتيجة قناعة الأطراف الدولية بأن المساعدات لن تصل إلى مستحقيها.
لقد عادت الحكومة للاجتماع من جديد لهدف واحد هو تأمين كافة مستلزمات تجديد البيعة للحكام المتهمين بالفساد، في الانتخابات النيابية القادمة في حال حصولها.
ومن يروِّج أن التغيير آتٍ لا محالة بعد فرز الأصوات في هذه الانتخابات يعمل عن قصد على تضليل الناخبين بزرع أوهام التغيير فيهم، لأن الانتخابات بالنسبة له مناسبة استثمارية يستغلها ليس للفوز بل للحصول على أموال من الخارج تصب في حسابه الخاص، لأنه من المعلوم للقاصي والداني أن نتائج هذه الانتخابات منذ اليوم معروفة، وسيكون التنافس فيها على عشرة مقاعد لا أكثر من أصل 120 مقعداً؛ أي أن هناك 110 مقاعد نتيجتها معروفة قبل بدء الفرز، وهذه المقاعد ستكون في عهدة الطاقم الطائفي نفسه الذي أوصل لبنان إلى دولة فاشلة وشعب جائع.
لذلك على اللبنانيين أن يدركوا تماماً أن أزمتهم باتت أكثر تعقيداً من أن تحلها انتخابات تجري في ظل نظام سياسي مهترئ وعاجز حتى عن تحقيق انتظام في عمل مؤسساته الدستورية؛ لذلك من الأفضل مقاطعة هذه الانتخابات ترشيحاً وانتخاباً، وذلك كي تكون الشرعية الشعبية لتجديد العهدة لأمراء الطوائف شرعية هزيلة. وليعلم الجميع أن المقاطعة الكثيفة لهذه الانتخابات سوف تجعل منها مجرد مسرحية مضحكة تماماً، كما كان يحصل في دول الأنظمة الدكتاتورية. والشعب اللبناني ليس بحاجة إلى إرهاق نفسه من أجل انتخاب عشرة أشخاص، حتى لو سلمنا جدلاً أنهم شموع، فعشرة شموع غير كافية لبث ضوء بسيط في ظُلمة الطائفية الحالكة.
خطاب الرئيس
والحقيقة، لم يكن معظم اللبنانيين ينتظر خطاب فخامة رئيس الجمهورية، لأن قسماً منهم كان مشغولاً في تحديد موعد لتقديم أوراقه في دوائر الأمن العام للاستحصال على جواز سفر، ويستغرق الحصول على موعد لتقديم هذه الأوراق أكثر من ثلاثة أشهر، علماً بأنه لا تقصير في دوائر الأمن العام، بل هناك عشرات الآلاف من اللبنانيين يريدون البحث عن فرصة للرحيل عن بلدهم بعد أن بات المجهول بالنسبة لهم أفضل من العيش في جهنم لبنان خلال هذا العهد الميمون!
وقسم آخر يصطف في طوابير داخل البنوك وخارجها للحصول على رواتبهم بالدولار لربح الفارق بين سعر الدولار في السوق الموازي (السوق السوداء) وسعره على منصة البنك المركزي، علماً بأن هذا الفارق لا يزيد من القدرة الشرائية للمواطن إلا مقداراً يكفي لشراء رطل من اللبن أو كيس من البصل، وبالتالي فهذا إذلال من دون رحمة، ناهيك عن أن هذه البدعة الجديدة معناها تسخير الموظف لخدمة السوق السوداء، وتنكر للّيرة اللبنانية كوحدة نقد وطني، وهذا مخالف للدستور والقانون.
حتى إن مَن كان يبحث عن قطع الحطب للتدفئة في فصل الشتاء من اللبنانيين، لم يكن على علم بأن رئيس الجمهورية سيوجه خطاباً للأمة أو أنه خاطبَ الأمة.
من تابع خطاب الرئيس هم "أعضاء المنظومة" حسب توصيف فخامة الرئيس لهم، وذلك بهدف الرد على ما ورد في كلمته بُغية بث الحيوية لسوق عكاظ السياسي المستعر فيما بينهم، والذي لا مكان فيه للحالة المزرية التي بلغها لبنان، بل همُّهم الأوحد هو الخلود في مناصبهم لأنهم على ثقة بأن التماسيح تعيش طويلاً.
وبالعودة إلى خطاب فخامة الرئيس، الذي لا نريد التوقف عنده كثيراً حيث اعتدنا في لبنان على أن خطابات رؤساء الجمهورية عادة ما تشبه محاورات أفلاطون، ومَن يريد فهمها يجب أن يحوز حداً أدنى من المعارف الفلسفية، سوف نكتفي بالتعليق على ما استطعنا فهمه منه فقط:
أولاً حدد فخامتُه أن المنظومة التي يشكو منها اليوم تشكلت قبل سنة 2005، وهذا يعني أن الدور الأساسي في هذه المنظومة كان للسوريين، لكنه تناسى أنه عاد إلى لبنان في سنة 2005 بصفقة مع هذه المنظومة بالذات وتم استقباله في سوريا كأنه بطريرك للموارنة بعد سنوات قليلة، وبذلك يكون قد وقع صك براءة بحق هذه المنظومة، فلماذا يتجاهل فخامته هذه الحقيقة؟
وبعد سنة 2005 دخل التيار الوطني الحر كشريك مضارب في نظام المحاصصة القائم، أي أخذ مكان السوري، لكن ليس بصفة مقرر، وبعد أن أصبحت وزارة الطاقة من حصة تياره السياسي صارت هذه الوزارة ملكية لهذا التيار.
وهدر الكهرباء والصفقات المشبوهة في هذه الوزارة بالذات تشكل على أقل تقدير ثلث ديون لبنان الخارجية، وما زال حتى اليوم مستحيلاً تشكيل الهيئة الناظمة للكهرباء لأنها تعتبر اعتداءً على الملكية الخاصة لتياره السياسي في وزارة الطاقة.
أما عن التعطيل، فقد ذكر أنه يتم تعطيل مجلس الوزراء بسبب مسألة لا تشكل خلافاً ميثاقياً؛ فهل تعطيل تشكيل الحكومة أكثر من سنة كان سببه خلافاً ميثاقياً؟ وقبل ذلك هل كان تعطيل انتخابات رئاسة الجمهورية لمدة تزيد على السنتين سببه خلاف ميثاقي أيضاً؟ أم أن الميثاقية وكالة حصرية تخصُّه دون سواه؟
علماً بأن الميثاقية التي يتححج بها كل الأطراف في لبنان لا أساس دستورياً لها، بل أتت نتيجة تفسيرات عرفية للدستور وباتت كمسمار جحا في الحياة السياسية اللبنانية.
أما عن التعطيل في المجلس النيابي فنذكّر فخامة الرئيس بأن هناك عدة مراكز شاغرة في مجلس النواب بعد استقالة عدة أعضاء، فلماذا لم يدع الهيئات الناخبة لانتخاب البديل؟ أليس ذلك تعطيلاً؟ ثم ماذا عن عدم التوقيع على قرار مجلس القضاء الأعلى بشأن التشكيلات القضائية بسبب دعوى عدم إنصاف إحدى القاضيات، أليس ذلك تعطيلاً؟
خطاب لم يتطرق لهموم الشعب
ونحن هنا لسنا بصدد تفنيد كل ما ورد من مغالطات، بل بودّنا التأكيد على أن هذا الخطاب لم يتطرق إلى المشاكل الحقيقية التي يعاني منها اللبنانيون، ولم يستعرض أي سبل لمعالجتها، حيث إن هذا الخطاب لا يمكن تصنيفه كخطاب من رأس الدولة إلى شعبه، بل هو مجرد بيان انتخابي لشد عصب البيئة الحاضنة لتياره السياسي.
وما يؤكد ذلك الصيغة الكلامية له؛ حيث كرر كلمة "أحبائي" مرات عدة، لكن ما يربطنا في لبنان مع الدولة ليس عقد حب بل عقد مواطنة! لذلك نرى أن كلمة "أحبائي" في سياقها الحقيقي تؤكد أن خطابه موجه إلى فئة مخصوصة وليس إلى عموم اللبنانيين.
وما يؤكد أيضاً أنه خطاب انتخابي هو تأكيده على الثلاثية الذهبية "جيش وشعب ومقاومة"، وذلك لإرضاء حليفه الأساسي؛ لأنه دون أصوات هذا الحليف سيخسر تياره السياسي معظم المقاعد التي بحوزته حالياً في المجلس النيابي القادم.
وأما عن التوتر السياسي خلال هذا الخطاب مع حليف الحليف، فالقصد منه خلط الأوراق، علَّ وعسى يتم الانقضاض على الانتخابات النيابية القادمة بالتمديد للمجلس الحالي.
وفي الختام لم نستطع معرفة ما هي المناسبة التي دفعت فخامة الرئيس إلى توجيه هذه الكلمة إذا كان بالفعل أراد بها مخاطبة اللبنانيين، فبعد هذا الخطاب تأكد لنا أن المنظومة الحاكمة من رأسها وحتى أخمص قدميها تعيش على كوكب غير الذي يعيش فيه الشعب اللبناني.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.