يشهد دور المملكة العربية السعودية توسعاً بارزاً على المستوييْن العربي والعالمي، توسّعٌ أسس له ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بشكل أساسي بدءاً من عام 2017 ورسمته مجموعة عناصر سياسية واقتصادية مختلفة، كان أبرزها رفض الولايات المتحدة الأمريكية تطبيق معاهدة الدفاع المشترك بعد الهجوم الحوثي على منشآت أرامكو في عام 2019. الحدث غير المسبوق هذا دفع السعودية إلى إعادة ترتيب أولوياتها بعيداً عن واشنطن، حليفتها الاستراتيجية، واتخاذها قرار الانخراط الناشط في الإقليم، في خطوة رسمت ملامحها قمة العلا.
في الرابع عشر من كانون الأول/ديسمبر، ختمت السعودية سنة 2021 بقمة خليجية تبنّت "إعلان الرياض" المتضمن التأكيد على مندرجات قمة العلا ببيان يؤكّد ضرورة "بلورة سياسة خارجية موحدة وفاعلة، تخدم تطلعات وطموحات شعوب دول الخليج، وتجنّب الدول الأعضاء الصراعات الإقليمية والدولية أو التدخل في شؤونها الداخلية، ويشدّد على أنّ "أمن دول المجلس كلٌّ لا يتجزأ". وإذ حذّر البيان من أنّ استمرار هجمات الحوثيين بدعم إيراني يمثّل تهديداً للأمن الإقليمي، دعا طهران إلى ضرورة الالتزام بميثاق الأمم المتحدة ومبادئ حُسن الجوار.
على صعيد الدول العربية، أكد البيان الخليجي المشترك أهمية وسيادة ووحدة الأراضي العراقية وإدانة محاولة اغتيال رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، مطالباً لبنان بمنع حزب الله من ممارسة "أنشطته الإرهابية". كذلك، شدّد البيان على الحرص على مصالح الشعب الليبي واستقراره، ودعم حقوق مصر والسودان في مياه النيل.
القمة الخليجية الأولى بعد المصالحة جاءت بعد جولة قام بها الأمير محمد بن سلمان على دول الخليج كافة، حيث عزّز شراكات المملكة مع سلطنة عُمان وقطر، وأكد اللحمة مع الإمارات والبحرين والكويت.
في الواقع، يشكّل الخامس من كانون الثاني/يناير الماضي تاريخاً مفصلياً بالنسبة للسياسة السعودية، إذ تُمثّل دعوة بن سلمان نظراءه الخليجيين إلى قمة في العلا نقطة التحوّل البارزة التي ما زالت أصداؤها تتردد في المنطقة. آنذاك، كان الأمير تميم نجم القمة التي شهدت مصالحة مع دولة قطر بعد نزاع خلط الأوراق في منطقة الشرق الأوسط المضطربة على مدى ثلاث سنوات.
فقد شمل هذا النزاع أغلب دول الإقليم من تركيا وصولاً إلى إيران والعراق فسوريا، كما أدى إلى ابتعاد المملكة عن الملف الفلسطيني الدائم الالتهاب، وتخليها شبه المطلق عن لبنان لولا بضع إشارات تلقاها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال زيارته السعودية والإمارات وقطر أواخر شهر تشرين الثاني/نوفمبر، ولكن من دون أن تظهر بعد أي مؤشرات جدية إلى تحوّلات قريبة.
توثّق قمة العلا إذن انطلاقة مرحلة الترجمة العملية، فهي تؤشر إلى قرار السعودية التعاطي بشكل فاعل مع ملفات الإقليم، والأجدر القول إن هذا التعاطي يتميّز ببعده عن المؤثرات الدولية، بل الأمريكية بالدرجة الأولى.
الملك سلمان.. ما قبله وما بعده
ولكن إذا ما أردنا العودة إلى تاريخ أبعد، لا يمكن إغفال تولي الملك سلمان بن عبد العزيز مقاليد الحكم في 23 كانون الثاني/يناير من عام ٢٠١٥، في خطوة انطوت على سلسلة تحوّلات واسعة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، ومحلياً وخليجياً وخارجياً. فمنذ ذاك الوقت، انتهجت السعودية سياسة مختلفة تماماً بالمقارنة مع مرحلة ما بعد اغتيال الملك فيصل بن عبد العزيز في 25 آذار/مارس من عام 1975.
وقد خاض الملك فيصل حروباً حقيقية ونزاعات سياسية يُعتد بها، لتسلك بعده المملكة مع كلّ من الملوك خالد وفهد وعبد الله سياسات مهادنة على الأغلب في الإقليم، يرافقها الاعتماد على قدراتها لتمويل أذرع إقليمية، تقوم بالأعمال المطلوبة من دون أن تورّط السعودية بشكل مباشر.
وقد كانت سياسات المملكة متماهية مع مطالب ورغبات الولايات المتحدة الأمريكية بشكل شبه كامل، خاصة بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر من عام 2001، التي شكلت بدورها نقطة تحوّل أمريكية تُرجمت اجتياحاً لأفغانستان والعراق وثورات توالت في الشرق الأوسط من تونس إلى مصر فليبيا وسوريا.. وصولاً إلى انتفاضة تشرين الأول/أكتوبر 2019 في لبنان.
بعد مرور سنة على تولي الملك سلمان مقاليد الحكم، انتُخب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، وتميّز الرجل بتعابيره العنيفة والاستفزازية والمباشرة. وكما يقول شعاره "أمريكا أولاً"، اعتبر ترامب أنّ الولايات المتحدة تحتل رأس الأولويات ولو على حساب حلفائه التقليديين من كندا، إلى المكسيك، فأوروبا وحلف شمال الأطلسي "الناتو" وصولاً إلى الخليج.
وفي 21 حزيران/يونيو 2017، بويع الأمير محمد ولياً للعهد، معلناً رؤيته 2030 الهادفة إلى استنهاض المملكة وترشيق إدارتها وتطوير وتحديث قوانينها وبناء اقتصاد موازٍ لإنتاج النفط، عبر تنويع مصادر الدخل وتنفيذ برامج للإصلاح الاقتصادي والإداري وتطوير شامل للقوات المسلحة والقدرات الدفاعية للمملكة العربية السعودية.
في الحقيقة، لم تبذل الولايات المتحدة، خلال عهد ترامب أي جهد لمساعدة المملكة على وقف حرب اليمن، وذلك على الرغم من إشهار السعودية رغبتها بوقف الحرب عام 2016. وحين تعرضت منشآت أرامكو في البقيق وهجرة خريص للقصف الحوثي بصواريخ ومسيرات إيرانية في 14 أيلول/سبتمبر 2019، لم تطبّق واشنطن معاهدة الدفاع المشترك، ما زعزع ثقة المملكة بها بشكل كبير، وجعلها تعيد حساباتها وفقاً للأداء الأمريكي الجديد في عهد جو بايدن والقاضي بالانسحاب التدريجي من المنطقة والإقليم.
وبعد الانسحاب غير المقنع من أفغانستان في آب/أغسطس الماضي، بدأت ملامح استعداد أمريكي لتلزيمات إقليمية حول العالم، تبلورت في منطقتنا عبر رغبة أمريكية بالعودة إلى الاتفاق النووي المبرم مع إيران في عام 2015، من دون تعديلات تسمح بحماية الحلفاء من صواريخ دقيقة أو ميليشيات متغلغلة أو حضور صاعد لإيران.
أمام هذه المعطيات، بدأت السعودية بالدخول في طريق رسمته لنفسها بغض النظر عن مصالح الدول الحليفة أو الصديقة أو المعادية، بعبارة أخرى، انتقلت الرياض من مرحلة تأدية وظيفة إلى لعب دور.
خارطة المواقف السعودية إقليمياً
استخدمت المملكة سياسة ترامب لجهة استخدام الضغوط القصوى انطلاقاً من اليمن وصولاً إلى العراق (ما قبل الكاظمي)، وسوريا فلبنان. وبالتوازي، بلغت الرياض حد القطيعة مع قطر الحليف في مجلس التعاون والمرتبط عشائرياً وجغرافياً وتاريخياً بالسعودية وبنت علاقات مستقرة مع مصر والإمارات.
أما دولياً، فعمدت السعودية إلى الانفتاح غير مسبوق على الصين وروسيا، ويؤكد خبر صناعة صواريخ بالستية صينية في المملكة المستوى المتقدّم الذي بلغه قرار توزيع مصادر الاستيراد بما فيه العسكري، مع أولوية مطلقة للولايات المتحدة وليس حصرية، وفي ذلك تبدل كبير.
لم تقتصر الانعطافة السعودية على الإقليم والخارج، بل واكبتها أخرى داخلية شديدة الحساسية سواء على المستوى الديني أو العائلي أو الاجتماعي أو الاقتصادي. وقد لقيت هذه التحولات صدىً إيجابياً في الداخل، من السماح للمرأة بقيادة السيارة إلى سعودة الوظائف وصولاً إلى استبعاد الرعيل السابق أي الجيل الثاني في العائلة المالكة والتعويل على الثالث والشباب.
عند انطلاق عاصفة الحزم في 25 آذار/مارس من عام 2015، لم يتحسب أحد للوقت والمسار الذي ستتخذه الحرب هناك، ولم تكد تمضي سنة حتى لاحت رغبة سعودية عارمة بوقف الحرب منذ عام 2016، رغبة واجهها تصلّب حوثي مرتبط بأبعاد داخلية يمنية بلا شك. لكن أبعاده الأكثر ثباتاً، برأي الخليج، ترتبط برغبة إيران بإشغال المملكة واستنزافها من جهة، والإمساك بملفات إقليمية مؤثرة للضغط على أطراف عدة لخدمة تحسين وضعها التفاوضي مع مجموعة ٥+١ من جهة ثانية.
عودة السعودية إلى الدبلوماسية انطلقت وتُرجمت بمصالحة خليجية شاملة مع قطر وبتقديم مبادرة جديدة لوقف القتال في اليمن، رفضها الحوثيون لأسباب تتعلق بأجندتهم الإقليمية. وفي العراق، عززت المملكة علاقاتها مع الكاظمي وعملت على بناء علاقات مع فرقاء عراقيين سنة وشيعة وأكراد في العراق.
وقد بلغ هذا التطور أوجَه عبر فتح حوار مباشر في بغداد مع الإيرانيين أنفسهم إلى جانب تطوير العلاقات والاستثمارات مع عُمان أيضاً. وفي 27 نيسان/أبريل 2021، أدلى بن سلمان بحديث لقناة العربية قال فيه حرفياً إنّ "إيران دولة جارة، وكل ما نطمح له أن يكون لدينا علاقة طيبة ومميزة مع إيران". وأضاف: "نريد إيران مزدهرة وتنمو، لدينا مصالح فيها، لديهم مصالح في المملكة العربية السعودية لدفع المنطقة والعالم للنمو والازدهار، مشدداً على أنّ "إشكاليتنا هي في التصرفات السلبية التي تقوم بها إيران، سواء من برنامجها النووي أو دعمها لميليشيات خارجة عن القانون في بعض دول المنطقة أو برنامج صواريخها البالستية".
وقد اعتُبرت هذه التصريحات بمثابة تغيير كبير بالمقارنة بمواقف كان قد تبناها بن سلمان في مقابلة تلفزيونية في عام 2017، حين وصف نظام طهران بأنه قائم على "أيديولوجية متطرفة منصوص عليها في دستوره وأن السعودية هدف رئيسي للنظام الإيراني". كما تعهد بن سلمان آنذاك بالعمل على نقل المعركة إلى داخل إيران نفسها.
أما على مستوى الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، فيظهر السعوديون اليوم عداء أقل لإسرائيل بلا شك، لكن من الصعب على عاصمة الإسلام ومحج المسلمين أن تحذو حذو الإمارات والبحرين في التطبيع خاصة وأنّ الملك عبد الله بن عبد العزيز كان من أطلق المبادرة العربية في بيروت عام 2002، وهي تتضمن حل الدولتيْن من دون استجابة من سلطات الاحتلال، ومن دون إحراز أي تقدم على صعيد تخفيف القيود والفصل العنصري عن الشعب الفلسطيني حتى يومنا هذا.
سوريّاً، شكّل تصريح مندوب المملكة العربية السعودية في الأمم المتحدة، السفير عبد الله بن يحيى المعلمي، صدمة كبيرة لعدد من المتابعين الذين كانوا يتطلعون إلى عودة دمشق إلى جامعة الدول العربية حين أكد "أن الحرب لم تنتهِ فيها" وهاجم النظام السوري بشكل عنيف متهماً إياه بقتل وتهجير شعبه.
في لبنان، توالت المواقف السعودية شديدة القسوة حتى بلغت أواخر تشرين الأول/أكتوبر الماضي قرار سحب سفراء دول الخليج من بيروت وطرد سفراء لبنان من هناك نتيجة تصدير المخدرات وتدخّل حزب الله في حرب اليمن.
وفي 27 كانون الأول/ديسمبر أظهر المتحدث باسم التحالف العربي، العقيد الركن تركي المالكي، لقطات فيديو خلال مؤتمر صحفي، قال إنها "تؤكد تورط حزب الله اللبناني باليمن واستخدام مطار صنعاء لاستهداف السعودية".
العلاقة مع الدول الكبرى
لا شك أنّ المملكة ترغب في إعطاء المساحة الأكبر دولياً لحلفها التاريخي مع الولايات المتحدة، لكنها في الوقت عينه لا ترغب، حتى اللحظة على الأقل، في الانخراط في مشروع الولايات المتحدة في مواجهة الصين وروسيا وتسعى للحفاظ على علاقات مع الدولتيْن بما يخدم مصلحتها. وما الخبر الذي أوردته محطة CNN الأمريكية مؤخراً حول تصنيع الصين صواريخ بالستية في المملكة سوى دليل على محاولة ارتكاز بن سلمان في المرحلة المقبلة على توسيع مروحة استيراده للمعدات العسكرية وغيرها بما يخدم الاقتصاد السعودي المعتمد على النفط إلى حد كبير في وقت يرغب فيه بن سلمان إلى تحويله إلى اقتصاد ذكي ورقمي متين.
مع مطلع عام 2022، يبدو جلياً أن المملكة السعودية ترغب في العودة إلى لعب دور وازن ومؤثر مع دخول العالم عصر "أقلمة السياسات الدولية"، بحسب تعبير الصحافي مصطفى فحص. ومع الأقلمة يصبح من واجب كل بلد ذي حضور ونفوذ أن يثبت نفوذه وحضوره حتى لا يضمر دوره ولا يصبح اقتصاده عرضة للتآكل أو القضم.
من جهتها، تحتاج المملكة إلى لعب دور في المشرق العربي، من القدس عاصمة القضية العربية إلى بيروت فدمشق وعمان وبغداد. وتحتاج المملكة إلى تعزيز الحضور لأن الغياب فيه ضمور للدور ويُعدّ المشرق بوابة إلزامية للعبور نحو غرب يفتش عن الرزق في كل مكان وشرق يتمدّد عبر طريق حرير صيني وموانئ تسعى موسكو للسيطرة عليها من طرطوس إلى طرابلس لبنان وصولاً إلى خطوط نفط وغاز يسعى الغرب إلى مدّها بحراً والشرق إلى مدها براً. ولا يمكن للدولة الخليجية الأكبر والأغنى وعاصمة الإسلام لكل الناس أن تغيب أو تُغَّيب عن المشهد والدور.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.