قوى الثورة.. أية شقاقات؟
يقولون إن الثورة تأكل أبناءها، ينطبق هذا تماماً على تلك العلاقات المرتبكة بين قوى الثورة السودانية المنضوية تحت قوى الحرية والتغيير، فالشقاق بدأ مبكراً، وأثناء التفاوض مع المجلس العسكري الذي اضطر للإطاحة بالبشير تحت ضغط الشارع الذي كان يغلي حينها، فعلى إثر فض الاعتصام أمام القيادة العامة بالقوة كان هناك صوت ثوري قوي ينادي بألا تفاوض مع هؤلاء القتلة، وشهدت العلاقات بين أطراف تحالف قوى الحرية والتغيير شداً وجذباً واستقطابات حادة، وتوقف للمفاوضات ثم استئنافها، انتصر فيها حمدوك والتيار الواقعي حينها على كل قوى الثورة، بإقناعهم بأن التفاوض هو الخيار الممكن الوحيد للتوصل لتفاهمات مع عسكر نظام البشير، وهو ما أجل الصراع الجذري والانقلاب الصريح على الثورة في سودان ما بعد البشير لعامين فقط.
الشقاق الأول كان داخل تحالف قوى الحرية والتغيير، وهو شقاق أفقي ورأسي بمنطق الحركات الاجتماعية، فتجمع المهنيين السودانيين وهو المكون الأقوى بل والموجد لتحالف قوى الحرية والتغيير، واجه اتهامات بسيطرة التيار اليساري على كل أدواته وخطاباته كتنظيم، واتُّهم أيضاً بمحاولة فرض رؤيته ومشكلاته على المكونات السياسية غير المهنية المنضوية في تحالف الحرية والتغيير، والذي بدوره كان متهماً بالإقصاء ومحاولة خوض حروب كلامية وإقصائية متشددة مع النظام السابق والأحزاب التي كانت متعاونة معه، وهنا حدث انشقاق بين الأحزاب المختلفة والتجمع على قيادة التحالف وعلى طبيعة خطابه وعلاقته بالسلطة الانتقالية.
ثم في يونيو/حزيران من العام 2020 وقبل التوصل لاتفاق سياسي واضح بين الحكومة السودانية والحركات المسلحة، برزت اتهامات قوية لحمدوك، بتفضيله التحالف مع الحركات المسلحة على الاستماع لصوت المكونات الأخرى المدنية للتحالف، وغض الطرف عما يمكن أن ينتجه مثل هذا الاتفاق من تعثرات في المرحلة الانتقالية، وهو ما حدث بالفعل لاحقاً، إذ تم تمديد الفترة الانتقالية للتوافق مع اتفاق جوبا للسلام.
الشقاق الثاني ظهر داخل تجمع المهنيين السودانيين، الفاعل الأبرز في مسار أحداث الثورة السودانية، والمحاولة التجميعية الناجحة للمهنيين السودانيين، وهو جسم نقابي مكون من خمس عشرة نقابة مهنية عشية الثورة، وهو مهندس هذه الثورة بالمعني الحرفي للكلمة، وفقاً لدراسة أعدها منتدى البدائل العربي للدراسات ومبادرة الإصلاح العربي، فإن التجمع واجه تحديات جمة في بنيته وتطوره وأدواره وتحالفاته، إذ تحول بشكل مكثف وسريع من مجرد تحالف مهني قبيل الثورة لفاعل سياسي ومهندس لهذه الثورة، وخطابها وتفاعلاتها وتحالفاتها وعملياتها التفاوضية مع المجلس العسكري والقوى السياسية الأخرى، وباختصار شديد فإن التجمع يواجه تحديات بنيوية تتعلق بهيكله وتمثيل التيارات المختلفة والأجسام النقابية وغير النقابية الجديدة، مثل لجان الأقاليم والنقابات الجديدة التي تشكلت عقب الثورة، وكذلك يواجه نقداً حاداً لضعف تمثيل المرأة وعدم وضوح صلته وعلاقته بحمدوك وسياساته، كما يواجه نقداً متعلقاً بهيمنته والتيار الذي يقوده على تحالف قوى الحرية والتغيير، الأمر الذي دفعه للانسحاب منه، ومحاولة العودة مجدداً لعمل نقابي مهني يحاول تحييد السياسة وخطابها بداخله للحفاظ على الكيان المهني، لكن سرعان ما تباغته السياسة بصراعاتها حول الفترة الانتقالية وتشكيل مجلس النواب، ثم الانقلاب، فيجد نفسه من جديد في قلب الصراع على السلطة.
شقاق آخر جرى بين حمدوك وقوى الحرية والتغيير، إذ إن حمدوك محسوب بشكل أو بآخر على قوى الحرية والتغيير، وبالتالي فإن أي نقد صادر من أعضاء التحالف ضد حمدوك كان يتم النظر إليه باعتباره خيانة للثورة ولحمدوك، وإضعافاً لموقف المكون المدني في السلطة في أية مفاوضات ومساومات مع العسكريين على إجراءات وتفاصيل وسياسات المرحلة الانتقالية، لكن هذا النقد تزايد ضد حمدوك بعد انقلاب البرهان على كافة ترتيبات المرحلة الانتقالية، ثم تراجعه مغصوباً عن بعض خطواته الانقلابية. ويرى هؤلاء في حمدوك رجلاً ضعيف الشخصية، وهذه حقيقة، وهو لا يصلح لقيادة مظاهرة، دعك عن ثورة، رغم عدم اتفاقهم مع منطق الاحتجاج الدائم من دون رؤية.
انقلاب 25 أكتوبر.. الشارع يستعيد حيويته ضد الجميع
منذ اليوم الأول للانقلاب على مجريات المرحلة الانتقالية كان الشارع هو الفيصل في عملية إعادة الأمور إلى أقرب وضع من نصابها السابق، واستعادة حمدوك لمنصبه، وإعادة تشكيله للحكومة، ولكن مع اتفاق سياسي أكثر هشاشة من الاتفاق الأول، وعلى الرغم من تزايد إصرار الشارع على تحجيم نفوذ الجيش في العملية السياسية، وإعادة العسكر لثكناتهم، فإن الأطراف السياسية تدور في فلك الواقعية، فالعسكر يفصلونهم عن الشارع بشكل كبير بمثل تلك الاتفاقات الهشة والسيئة، ويكسبون مزيداً من الوقت، فيما تتناثر قوى الثورة وتتشظى أكثر بطول الفترة الانتقالية، وبأية تعديلات فيها يزداد المشهد السياسي ارتباكاً وتزداد الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية تدهوراً.
المتابع لخطابات تجمع المهنيين السودانيين والمكونات المنضوية تحته منذ هذا الانقلاب يلاحظ انفصالاً تاماً بين فريقين، أحدهما يرى استعادة حمدوك للسلطة مكسباً يجب الوقوف عنده، والنظر بواقعية شديدة للفترة الانتقالية والمستقبل، والفريق الآخر ويسيطر على صفحات التواصل الاجتماعي للتجمع، ويبدو أنه صاحب الصوت الأعلى في الميديا والشارع، ويرى أنه لا تفاوض قبل عودة العسكر للثكنات، وتلافي عيوب كافة الاتفاقات التي جرت في المرحلة الانتقالية الأولى، بل وحتى رفض مشاركة العسكر في مجلس السيادة الانتقالي، ويرفع هذا التيار الذي يمثله تجمع المهنيين السودانيين شعارات "لا تفاوض- لا شراكة- لا شرعية- لا وجود للعسكر في الحكم".
ورغم أن الشارع وخطابات قوى الثورة تبدو أنها نجحت في هذه الجولة من الصراع مع العسكر، فإن الاتفاق الهش الذي تم التوصل إليه دون العودة حتى لخطوط ما قبل 25 أكتوبر/تشرين الأول، ناهيك عن تشديدها واستغلال فورة الشارع، تؤدي إلى وقت أطول للعسكريين في السلطة، وقدرة أكبر على تبريد الحراك الثوري، وإحداث مزيد من الانشقاقات الحادة بين مكوناته، بين فريق الشراكة مع العسكر، التي يفرضها الواقع كما يرونه، والفريق الآخر الذي يرفض هذه الشراكة ولا يعترف بشرعية الترتيبات الجديدة، هذا الشقاق قادر على تخليق مناخ ملائم لاستعادة العسكريين لكل مزايا نظام البشير، مع انصراف الناس عن الثورة وقواها في المدى المتوسط، وصولاً لكراهيتها في المدى البعيد.
تجمع المهنيين السودانيين ومنطق الاحتجاج الدائم.. هل ينقذ الثورة؟
برغم وضوح منطق تجمع المهنيين الثوري، وقدرته الفائقة على تجميع المحتجين ضد الترتيبات الحالية، فإن العسكر في المنطقة العربية أثبتوا قدرة عالية على المراوغة والمبادرة بتقديم اتفاقات معيبة، ورسم مسارات للأطراف المدنية لتسير فيها، وبرغم أن التجمع يصر على التمسك بلاءاته ومعارضته للتفاوض مع العسكريين، فإنه لا يستطيع فرض الأسماء التي يقترحها في الوزارة الجديدة، التي يفترض بحمدوك أن يشكلها كما فعل في الترتيبات الانتقالية الأولى، لكنه يملك قدرة في الشارع على تعطيل أية ترتيبات، وشل حركة الاقتصاد بقدرته على تنظيم الإضرابات والاحتجاجات والاعتصامات الممتدة لأيام، لكن هذا يؤثر على عموم السودانيين في معاشهم أكثر مما يؤثر على العسكر وتحالفاتهم المالية والسياسية الداخلية والخارجية، أو حتى على حمدوك، ومن هنا يتساءل البعض حول جدوى استمرار مليونيات شباب الثورة من دون خطط واضحة لما بعد الإسقاطات، وأن تمارس قوى الثورة نقداً ذاتياً.
في التحليل الأخير فإن المشهد المسيطر على السودان الآن هو مشهد اتساع الهوة بين قوى الثورة وتحالف حمدوك- البرهان، فالبعض يعتبره ضالعاً في تسوية مع العسكر ضد الثورة لحساب بقائه في الفترة الانتقالية، ومحاولته فرض نفسه كشخص تكنوقراطي، مستغلاً حالة الثورة في الشارع، وهؤلاء يرفضون حتى بقاءه بشخصه، ما دام لم يتخذ مواقف أكثر ثورية في إبعاد العسكر عن المشهد السياسي، فيما يحاول آخرون عقلنة الواقع والتعايش مع واقع يسيطر فيه العسكريون على أدوات القوة المادية، في محاولة إصلاحية للعلاقات المدنية العسكرية، الخطر الأكبر الذي يحدق بالسودان هو فقد الحركة الاجتماعية لزخمها وقدرتها على فرض تغيير جذري، في ظل وضوح تام للصراع مع العسكر، وتردٍّ كامل للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، رغم الفرصة التاريخية المواتية، حيث تحالف الثورات المضادة يتعرض لهزائم إقليمية ودولية، ونقد حاد أجبره على التراجع في الانقلاب السوداني، وحيث القوى الدولية مضطرة لتقديم رؤية مغايرة لتلك التي كانت لدى إدارة ترامب عن الثورات العربية، وإن لم تدعمها، فهي لا تدعم من يقفون ضدها. وفي النهاية فإن تراجع تيار الشراكة مع العسكر وإدراكه لقوة الشارع والحركة الاجتماعية مع مراجعات موضوعية لمسارها يمكن أن تعطي نموذجاً لمسار ثوري ناجح قريب من مسارات الثورات الكبرى في روسيا وفرنسا أو إيران، على أقل تقدير، وتجاوز عثرة ثورات الربيع العربي الإصلاحية، وإلا فستتولد قناعات لدى قطاع واسع من المواطنين بأن لا فائدة في الجيل الحالي بكافة التيارات السياسية الحالية في المنطقة العربية، وتنتهى الأمور بشعبوية قائمة على كراهية السياسة والمؤسسات السياسية، يقودها هيكل عظمي كذلك المنتخب في تونس.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.