في الأزمة المستجدة بين السعودية ولبنان، وفيما هو أبعد من المعالجة الآنية التي يمكن أن تتمثل باستقالة الوزير جورج قرداحي أو حتى باستقالة رئيس الوزراء نجيب ميقاتي، تبقى الأسئلة الأساسية هي التالية: هل تريد السعودية حقاً "تصحيح العلاقات" مع الدولة اللبنانية، في سبيل إرساء علاقات ندية مع بلد الأرز؟ وهل سوف تكتفي السعودية بأن ينأى لبنان بنفسه عن المحاور ويحيد عن صراعاتها في المنطقة؟ أم أن ما تريده السعودية في الحقيقة هو استتباع لبنان لكي يكون خاضعا لمشيئتها في الشاردة والواردة، أي كما تخضع لإرادتها الأغلبية الساحقة من دول مجلس التعاون الخليجي، وغيرها من الدول العربية، لا سيما تلك التي هندست فيها السعودية والإمارات سلسلة الثورات المضادة التي نتج عنها عودة العسكر، أو الديكتاتوريين المدنيين (بدعم ضمني من العسكر)، إلى الحكم؟
هل تريد السعودية فعلياً "تصحيح العلاقات" مع لبنان، أم أنها تريد الهيمنة على قراره، كما حاولت أن تفرض سطوتها على دول عربية أخرى خليجية أو "مشرقية"، من خلال حصار من هنا أو محاولة انقلاب من هنالك، ولكنها فشلت؟ هل تريد المملكة "تصحيح العلاقة" مع لبنان ضمن احترام سيادة وحرية واستقلال دولته، ولمساعدته على التخلص من هيمنة إيران ومحورها؟ أم أنها تريد التشبّه بسياسة إيران تجاه نفس البلد، أي أن تحاول بدورها استتباع لبنان بشتى أنواع الضغوط إلى المحور الإقليمي الذي تتزعمه بوجه المحور الإيراني الذي يهيمن حالياً على لبنان؟
وفي هذه الحالة، هل تظن السعودية أنها ستستطيع تقليص فارق التقدم الإيراني المهول عليها في الهيمنة على لبنان، من خلال بعض النرفزة التياترالية ومظاهر الغضب؟ هل تظن السعودية فعلاً أن الضغوط الدبلوماسية والاقتصادية والمالية القاسية الأخيرة التي بدأت بفرضها على لبنان، والتي لن يدفع ثمنها الباهظ إلا الشعب اللبناني في عز أزمته، كافية لتمكينها من اللحاق بإيران في فترة قياسية، واختصار أربعة عقود من الجهود الإيرانية الحثيثة للسيطرة على لبنان بمدة قصيرة لا تتعدى بضع سنوات أو حتى أشهر قليلة؟
وبالنظر إلى المؤشرات والسوابق المذكورة آنفاً في تعامل السعودية مع دول عربية أخرى، يبدو أن الفرضية الثانية، أي فرضية استتباع لبنان بالمحور السعودي، وليس فقط حثه على تصحيح علاقته بالمملكة وبدول الخليج، هي الأكثر قرباً إلى ما تريده السعودية من لبنان.
فالمصيبة الكبرى تكمن في عدم القدرة ـ أو الإرادة ـ لدى البعض على التفريق بين الدولة من جهة، والنظام الحاكم في بلد معيّن من جهة أخرى.
صحيح أنّ هذه العقلية منتشرة في البلدان العربية، ومن ضمنها لبنان، ولكنها ليست حكراً على العالم العربي. أمريكا ذات نفسها مثلاً، ارتكبت أفدح أخطائها على الإطلاق في العراق عندما لم تفرّق بين نظام صدام حسين والدولة العراقية، فلم تكتف بإسقاط النظام سنة ٢٠٠٣، بل أسقطت الدولة العراقية كدولة أيضاً، وذلك من خلال حل الجيش العراقي.
وكان نتيجة ذلك تحلل مؤسسات الدولة العراقية واحدة تلو الأخرى، وعودة العراق إلى حالة ما قبل الدولة، أي إلى مجموعة من الطوائف والعشائر والقبائل والمجموعات الإثنية والدينية المتناحرة والمتصارعة فيما بينها.
وقد نتج عن سقوط الدولة والردّة (régression) إلى حالة ما قبل الدولة في العراق، حرب طائفية طاحنة، ارتكبت فيها أبشع الفظاعات بين مختلف مكونات الشعب العراقي (وهي جرائم أفظع من تلك التي حصلت خلال الحرب الأهلية اللبنانية بأشواط)، تبعها تسلط نظام طائفي فئوي جديد في العراق، وظهور مجموعات إرهابية متوحشة مثل داعش وأخواتها، التي كان أغلب قياداتها من ضباط الجيش العراقي السابق الذي حلته أمريكا، والذين وجدوا أنفسهم دون أي عمل بين ليلة وضحاها، واستمروا على هذه الحال لمدة ١٠ سنوات حتى تمكنوا من تأسيس داعش والسيطرة على أجزاء واسعة من العراق وسوريا.
أمريكا فهمت خطأها، ولو متأخرة، وأصبحت جل مراكز الأبحاث فيها تعترف بأن الخطيئة التي ارتكبتها إبان غزوها واحتلالها للعراق، هي عدم الاكتفاء بإسقاط النظام العراقي السابق، بل تعديه نحو إسقاط الدولة العراقية أيضاً.
لذلك، فعلى اللبنانيين، وعلى جميع الدول التي تتدخل بالشأن اللبناني، المحافظة على الدولة اللبنانية (أقله ككيان قانوني) برموش العيون. من حق كل لبناني أن يكون من أشد المعارضين للنظام القائم حالياً في بلده، والذي يخضع كلياً لحزب اللّه وعبره، للهيمنة الإيرانية. ومن حق أي مواطن لبناني أن يعمل لإسقاط هذا النظام (بالطرق السلمية، وهي كثيرة). ولكن حذار المساس بالدولة، وحذار إسقاط الدولة، وحذار الكفر بالدولة، وحذار الاستعانة بالخارج لمحاصرة الدولة اللبنانية.
فالخصم هو النظام القائم حالياً في لبنان، نظام الفساد والمحاصصة المقززة، الذي يهيمن عليه حزب اللّه. الدولة اللبنانية ليست خصمنا كشعب لبناني، ولا خصم الدول العربية، ولا عدونا ولا عدو الدول العربية. هي "الحيلة والفتيلة"، كما نقول بالدارجة اللبنانية. وعلى الأشقاء العرب أن يعوا ذلك، ويفهموه جيداً، وأن يعتبروا من التجربة العراقية الكارثية في العقدين الأخيرين.
وفي السياق عينه، لو سلمنا جدلاً بأن لبنان واقع تحت "احتلال إيراني" بواسطة حزب اللّه (وهو توصيف غير دقيق من الناحية القانونية)، فحتى في حالة "احتلال" عسكري، الدولة التي تقع أراضيها تحت الاحتلال بحكم الواقع (de facto)، تبقى دولة بحكم القانون (de jure)، لا سيما بنظر القانون الدولي، وحتى ولو احتلت أراضيها بشكل كامل.
صحيح أنّ القانون الدولي يسمح بانتقال بعض صلاحيات إدارة شؤون البلاد الواقعة تحت الاحتلال إلى القوة التي تمارس الاحتلال، إلا أنّه يمنع منعاً مطلقاً انتقال سيادة الدولة التي تقع أراضيها تحت الاحتلال إلى الدولة التي تمارس هذا الاحتلال، ولا يعترف بعمليات الضم (annexion) التي يمكن أن تجريها دولة احتلال لجزء أو كل من الأراضي التي تحتلها. وعليه، فإن وقوع أراضي دولة معينة تحت الاحتلال لا يعني أنها أصبحت أرضَ مشاعٍ سائبة، ولا يبرر إطلاقاً معاملتها من قبل دول ثالثة بما هو مخالف لأحكام القانون الدولي أو الأصول الدبلوماسية التي تحفظ سيادتها التي، نكرّر، تبقى قائمة بحكم القانون.
وفي نفس سياق المؤشرات على محاولة السعودية استتباع لبنان لها، فقد جاءت زيارة وزير خارجية الإمارات الأخيرة إلى دمشق لتنسف كل النظرية القائلة بأنّ دول الخليج تسعى فقط، من خلال قطع علاقاتها مع لبنان، لتصحيح العلاقة مع هذا البلد، ولتؤكد أنه في البحث عما تريده السعودية فعلياً من لبنان من جراء التدابير الأخيرة المتخذة بحقه، لا يكفي بتاتاً اعتماد وجهة نظر دول الخليج وحدها وتبني الأسباب التي تعلنها، بل يجب البحث في الأسباب الحقيقية وراء ذلك.
فكيف لدول الخليج أن تعاقب أضعف بلد في الإقليم (أي لبنان) بسبب (أو بذريعة) وقوعه تحت هيمنة حلف "الممانعة"، وذلك بدل مساعدته للتخلص من هذه الهيمنة، في حين أنّ نفس الدول تهرول لمد الجسور مع أحد الركائز الأساسية في حلف "الممانعة" هذا، أي النظام المجرم في سوريا؟ هذان الأمران لا يستويان، والأقنعة بدأت سريعاً بالسقوط.
وفي نفس سياق هذه المؤشرات أيضاً، كان لافتاً استشهاد السفير السعودي في لبنان، وليد البخاري، في إحدى تغريداته الأخيرة، باقتباس للفيلسوف الماركسي، الذي انتسب للحزب الشيوعي الإيطالي، أنطونيو غرامشي: "تَكْمُنُ الأزمةُ تحديداً في أنَّ القديمَ يُحْتَضَرُ وَالجديدَ لم يُولدْ بعد.. وَفي ظلِّ هذا الفراغِ يظْهَرُ قَدرٌ هائلٌ من الأعْراضِ المَرَضِيَّة..!".
ربما كان من الجائز تذكير السفير السعودي بأنّ أنطونيو غرامشي قضى ١١ سنة في سجون الزعيم الفاشي الإيطالي بينيتو موسوليني، وذلك حتى فارق الحياة في المعتقل سنة ١٩٣٧، لأنه تجرأ على قول كلمة حق في وجه نظام أوتوقراطي قمعي لا يقبل التعددية ولا الاختلاف بالرأي.
وأنّ الشجاعة التي جسدها غرامشي وأمثاله في الماضي، هي التي أنارت الدرب حاضراً لمن تلاه من أصحاب الرأي الحر، لا سيما أولئك الذين دفعوا حياتهم، في بلدان منطقتنا، ثمن تمسكهم بحرية الرأي وتصميمهم على ممارستها خير ممارسة، أمثال شهداء ثورة الأرز في لبنان ابتداءً من 2005، لا سيما الصحافيين منهم، أو كما فعلت الناشطة الإيرانية ندى آغا سلطان التي سقطت مضرجة بدمائها في وجه آلة القمع في طهران، أو مثل الصحافي السعودي جمال خاشقجي أيضاً، الذي اغتيل في القنصلية السعودية في تركيا، أو غيره الكثيرين من معتقلي الرأي الذين يقبعون في سجون أنظمة المنطقة على اختلاف توجهاتها.
فلو كان غرامشي ما زال اليوم على قيد الحياة، لكان دون شك من أشد المنتقدين للأنظمة الديكتاتورية في العالم، لا سيما في منطقتنا، خصوصاً تلك التي تتصارع فيما بينها على النفوذ في الإقليم، ولكان صوّب بفكره المتقد، وأسلوبه الفريد، على الأعراض المرضية المتمثلة بالخروقات العديدة لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني (قانون النزاعات المسلحة) التي ترتكبها هذه الأنظمة مباشرة، أو بواسطة أدواتها، من سوريا، إلى العراق، إلى اليمن، إلى ليبيا وغيرها، والتي توثقها الأمم المتحدة، والتي تغطيها مصالح النظام الرأسمالي العالمي الذي كان غرامشي أكثر من عرّاه، وأبدع في تفكيك آلياته الفكرية (déconstruction)، وأساليب ما سمّاه الهيمنة الثقافية ("Hégémonie culturelle")، وكان من انتقدها خير انتقاد،
ولكانت السعودية على الأرجح، قطعت علاقاتها مع إيطاليا بسببه، وربما لكانت طالبت الدوتشي بألا يكتفي بسجن غرامشي كعقاب لما "اقترفه" قلمه ولسانه.
وذلك، حتى لو كان لا مجال للمقارنة إطلاقاً بين غرامشي، وإبداعه الفكري، ومستواه الثقافي من جهة، ومستوى التفكير وقلة المسؤولية لدى بعض وزراء آخر زمن في لبنان، من جهة أخرى، والذين يشكلون ليس فقط عبئاً على بلدهم، بل عاراً وطنياً بنظر شرائح واسعة من الشعب اللبناني.
كما أنّ التبدل الحاصل في مستوى المعايير المهنية، والموضوعية، والاستقلالية، والأمانة الفكرية، والنزاهة العلمية، والخطاب العام لبعض الصحافة السعودية، لا سيما في حملاتها المتواصلة، ذات الرأي الواحد، وذات اللون الواحد، ضد لبنان، لا يبشر كثيراً بالخير، وبات الكثير من أبناء الجاليات العربية في الغرب، لا سيما اللبنانيين منهم، يتحسرون على صحيفة متعددة الآراء "كالحياة" التي كانت، حتى ماض قريب، واجهة الصحافة السعودية، والتي كان المثقفون العرب يتغنون بفلسفة صفحاتها في مقاهي باريس الفاخرة، وذلك قبل أن يتم إقفالها بأوامر عليا في السعودية.
في الختام، لبنان بأكثرية شعبه، لا يكنّ إلا كل الود للمملكة، ولا ينسى جميلها على بلده وعلى مغتربيه لديها ولدى كافة دول الخليج. ولكنّ مصلحة لبنان، عربي الهوية والانتماء، ليست في التبعية لا لإيران، ولا للسعودية، ولا لأي دولة أخرى، ولا لأي محور إقليمي، بل مصلحته في علاقات ندية مع الجميع ضمن احترام القانون الدولي وحقوق الإنسان وأطرها (ما عدا الكيان الاسرائيلي الذي هو في حالة حرب معه، والذي يعتبر دولة عدوة للبنان، لا سيما في نظر القانون الدولي).
فحبّذا لو يعفينا البعض من الدروس في فلسفة غرامشي، وحبذا لو يوقف جميع المفوضين الساميين الغربيين، والفرس، والعرب التدخل بشؤون لبنان الداخلية، ليتهم يلتفتون جميعاً إلى الأعراض المرضيّة في بلدانهم، قبل أن يغدقوا على اللبنانيين برسائلهم المبطّنة، وغير المبطّنة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.