بعد مرور عام ونصف تقريباً من عرضه على منصة "شاهد" الرقمية، تردد من جديد اسم مسلسل في كل أسبوع يوم جمعة في الأوساط الصحفية والفنية، والسبب هو شيء يحدث للمرة الأولى في تاريخ الدراما العربية، وهو ترشيح بطلة المسلسل، منة شلبي، لجائزة Emmy العالمية عن فئة أحسن ممثلة، وهي الجائزة التي سوف يتم الإعلان عنها في يوم 22 من نوفمبر/تشرين الثاني القادم.
بالنسبة لي، لم يكن الأمر مُفاجئاً، فمنّة شلبي هي حصان المسلسل الرابح، والذي لم يختلف عليه أحد، والغريب أنّه في سباق الأفضل من بين صُنّاع هذا العمل، قد ربح الجميع ولم يخسر أحد، ربح كل من السيناريو والقصة والإخراج والموسيقى والممثلين جميعهم، وتصدرت كل هؤلاء منة شلبي، الممثلة الهوليوودية التي صادف أنّها وُلدت وعاشت في مصر.
على مدار الفترة الماضية، كنت أجد وصفاً ثابتًا، يُطلق على مسلسل "في كل أسبوع يوم جمعة"، من قبل من شاهدوه، وهو أنّه مسلسل مُختلف بحق..
السؤال هنا.. ما الذي جعله يختلف عن غيره من أعمال الدراما العربية؟
ولماذا صنع كل هذه الضجة؟
سأحاول الإجابة عن هذا السؤال، بداية بأول مشهد في المسلسل، وتحديداً عبر الأربع دقائق الأولى فحسب منه.
4 دقائق تقول الكثير
إذا صادف وشاهدت الـ4 دقائق الأولى من المسلبسل، بدون أن تعرف عما يتحدث، أو من هم أبطاله أو صنّاعه، فأكاد أُجزم بأنّك لن تستطيع تركه، بدون أن تشاهده بالكامل، ففي هذه الدقائق الأربع، ستدخل إلى عالمٍ جديد، يجذبك إليه غموضه، وتكون حواسّك من خلاله، في حالة عالية من التأهّب، وذلك بنفس قدر انقباضة قلبك لسوداويته، كلما توغلت بداخله أكثر فأكثر.
كان أول ما لفت انتباهي هو موسيقى هشام نزيه الجنائزية، وصوت نشيج آلات الكمان الحزينة وهي تتداخل معاً، صانعة مشهداً يليق بطقوس الغُسل والتكفين بحق كما يظهر على الشاشة، والشيء الغريب، أنّ الموسيقى لم تتعارض مع مشهد خطبة الجمعة الذي يدوي عبر ميكروفونات الشارع الضيق.
يعلو الكمان ويهبط مع تمتمات استغفار مُغسّلة الموتى وهي تقوم بربط شرائط الكفن الأبيض الناصع، على جسدٍ يبدو ضئيلاً. حول الجسد الراقد، تظهر وجوه الأسرة مكسوّة بالحزن، وبشيءٍ آخر من الصعب تحديده في هذا الوقت المُبكر، شيء أكثر ألماً وقسوة.
"لا إله إلا الله.. يفنى العبد ويبقى الله.."
إنّها نور.. نور هي الفتاة المُكفّنة بالأبيض، والتي خرج أغلب المُصلين بالمسجد فور دخولها إليه، في رفضٍ صريحٍ للصلاة عليها. بعدها يأتي مشهد عربة نقل الموتى، ومشهد النزول للدفن، وذلك قبل مجيء المشهد الذي سيهدم كل المشاعر التي تكوّمت سابقاً، ليحل محله الفضول والدهشة، وذلك حينما تخرج نور من عربة الموتى التي تم استبدالها بأخرى بالطبع قبل دخول المدفن، لتبدأ نور حياة جديدة، تاركة نور القديمة خلفها تحت التراب.
بداية مُقبضة، وثقيلة على الروح، مشهد مدته أربع دقائق، ولكنه حقيقي جداً، ومصريٌ خالص، أشعرني بأنّي أُشاهد عملاً مختلفاً فعلاً، لن يُثير البهجة بداخلي كما هو واضح، ولكني رأيت فيه عالماً شبيهاً بعالمي، فالواقعية تكاد تنطق من تفاصيل كل شيءٍ فيه، وبدون استعراض أو افتعال لأصالة غير موجودة.
إعلان المسلسل
منة شلبي.. حينما تكون المُخاطرة مضمونة النجاح
بعينين جاحظتين، ووجهٍ شاحبٍ، خالٍ من المساحيق، وحامل كل هموم الدنيا، أُشاهد الفتاة "نور"، التي زيّفت موتها، لتُدفن وهي حية، وبكامل إرادتها، في فيلا نائية لتعيش مع مختلٍّ عقلي.
لم تكن منة شلبي تُمثّل، بل كانت "تعيش" صدقاً شخصيتي "نور" و"ليلى"، كلٍّ على حدة، فنور تُمثل الماضي بآلامه وحسراته، وقهر فراق الأهل، وليلى تُمثل الغضب الذي يبحث له عن مخرج، ورغبة الانتقام التي لا تهدأ إلا بسيلان الدماء. ووصولاً إلى نهاية المسلسل، أُشاهد أنّ نور وليلى، قد امتزجتا معاً انسجاماً كاملاً.
أُفكر.. من كان سيؤدي هذا الدور المُعقّد والحسّاس بخلاف منة شلبي؟ وهي وحدها القادرة على التعبير بملامح وجهها التي تنقبض فتظلم الدنيا، وتنبسط ليعمّ السرور العالم بأسره؟ لا أحد.. لا أحد يُمكنه أن يُجسّد دور المخدوعة الساذجة، والمُخادعة التي لا تعرف الرحمة في آنٍ واحد، وبنفس القوة بمثل ما فعلت منة شلبي.
تقول منة شلبي إنّ هذا المسلسل الجريء ظاهره ومضمونه يعتبر مغامرة أو مخاطرة ولكنها محسوبة أو مضمونة النجاح، وذلك للعديد من العوامل منها اسم المخرج الكبير محمد شاكر خضير كمخرج للعمل، بخلاف فريق العمل ككل.
استطاعت منة شلبي أن تظهر بمظهر الضحيّة والجلاد معاً، وبأصدق شكلٍ ممكن. تطورت نور لتتحول إلى ليلى، هذا التطور الذي كان مُقنعاً ومقبولاً، ومُتعاطَفاً معه أيضاً.
فريق العمل وشركاء النجاح
كما ذكرت، لم تنجح منة شلبي وحدها، وإن كانت هي الأبرز من بين فريق العمل بالمسلسل، ولكن من قارب من الوصول لقدراتها التمثيلية الفائقة، كان هو النجم آسر ياسين، الذي أدى دور شخص مُصاب بعدة أمراض وهي، سمات التوحد، والتأخر العقلي، وفرط الحركة، وذلك حسب تصريح كاتب الرواية وكاتب السيناريو أيضاً. إضافة إلى أنّ "عماد" يعتبر حالة متأخرة لأنّه لم يتم علاجه أو التعامل معه بشكل صحيح، بل على العكس، تمت إصابته بصدمات نفسية نتيجة لسوء معاملة أهله له.
"هو عماد مُختلف شوية.."
هكذا وصفته الأم لنور حينما قدمته لها في أول مرة، وهو ما كان صادماً، لدرجة أنّ نور قضت ليلتها الأولى نائمة على أريكة حديقة المنزل، والتي أخفت تحت وسادة منها، سكينة كبيرة.
عماد الذي لا ينطق سوى كلمات قليلة، ولا يتكلم بجملٍ كاملة إلا نادراً.
عماد الذي يقوم بحركات لا إرادية، ويُهمهم بطريقة متكررة ومميزة، ويتصرف مثل طفل غاضب لا يكف عن الحركة ولو للحظة.
عماد الذي يُكرر دائماً كلمة "نيلة" تعبيراً عن غضبه المكتوم، والذي استطاع لأول مرة التعبير عنه حينما جاءت ليلى (نور) لتعيش معه.
بينما كنت أشاهد عماد، استطعت أن أنسى آسر ياسين، فتفاصيل شخصية عماد مُتقنة جداً، وهو دور شديد الصعوبة على أي ممثل، إلا أنّ آسر ياسين قد اجتهد حقاً وصنع "كاركتر" جديداً وأقرب للتصديق، عن المصابين بهذه الحالة المُتقدمة.
لن أستطيع إغفال دور أحمد خالد صالح، الذي لا يبذل أي جهدٍ في أن يجعلني أصدق أنه ضابط شرطة صارم. من الممكن أن تكون هذه هي البداية الحقيقية له، وأُشيد بأدائه الراسخ وبثقته الكبرى بنفسه، والمستحقة في الواقع.
لم يكن هناك ممثل في غير مكانه، أو ممثل لا أهمية لوجوده في المسلسل، ويعتبر فريق التمثيل أقوى عوامل نجاح المسلسل بحق، وهم من أشرف عليهم مخرج الدراما البارع والمهتم بأدق التفاصيل، محمد شاكر خضير.
جرأة الفكرة وتلافي عيوب الرواية
يعتبر تصنيف المسلسل وكونه دراما جريمة وإثارة، تصنيفاً غير شائع لدينا نحن العرب بصفة عامة، وهو الشيء الذي كان لابد أن يلفت الانتباه سريعاً لعملٍ من هذه النوعية.
تنويه يأتي في بداية المسلسل أنّه للكبار فقط، فكرةٌ جريئة ومشاهد أكثر جرأة، ولغة حوار قوية وصادمة، بخلاف إعلانه الذي بدا مرعباً فعلاً للبعض، ومقززاً للبعض، وغريباً لأغلب الناس، كل هذه الأشياء ساهمت في التأكيد على أنّنا سنشاهد من خلال "في كل أسبوع يوم جمعة" شيئاً لم نُشاهده من قبل.
إذا قارنّا الرواية المأخوذ عنها المسلسل، والتي تحمل نفس الاسم، للأديب المصري إبراهيم عبد المجيد، سنجد أنّنا أمام حالة نادرة حقاً، من الحالات التي تفوّق فيها العمل التلفزيوني أو السينمائي على الرواية المُقتبس عنها في الأصل. وهو ليس حالي وحدي، بل حال أغلب من قرأوا الرواية وشاهدوا المسلسل، وهو أمرٌ يُحسب بالتأكيد لصاحب المعالجة الدرامية للرواية إياد إبراهيم، وهو نجل الكاتب إبراهيم عبد المجيد نفسه، والذي أعاد كتابة السيناريو والحوار بمشاركة الكاتب الموهوب أيضاً محمد هشام عبية.
كانت فكرة الرواية ناجحة وجذابة، ولكن تنقصها روح الشباب، التي تظهر في استخدام التكنولوجيا وعملية قرصنة المعلومات واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي بشكلٍ احترافي، وهو ما عمل عليه كاتبا السيناريو بشكل رائع في الحقيقة، بخلاف الحوار الواقعي والصادق، الذي لم يكن غريباً على آذاننا أبداً.
كما في روايات الجيب: متعة وإثارة وتشويق
كان عنصر التشويق هو العنصر الأبرز، منذ دقائق المسلسل الأولى وحتى دقائقه الأخيرة. اللغز الذي كان بمثابة علامة استفهام كبيرة، صار يتضح تدريجياً مع الوقت، ولكن ببطء يُزيد من عنصر التشويق أكثر. ففي بداية كل حلقة، نعود للماضي قليلاً، لنسترق النظر للأحداث التي مرّت بها نور، لنعرف أكثر عنها، ولنفهم أسباب تحوّلها المُخيف.
كما أنّ عدد حلقات المسلسل القصيرة، والتي عددها 10 فحسب، زاد من عنصر الإثارة، لأنّ ذلك وضع حداً لمسألة المط والتطويل والحشو التي لا داعي لها.
العاطفة
العاطفة تنطق في هذا المسلسل بدون أن تُصدر صوتاً. المشاعر هي المُحرّك الرئيسي لكل الأبطال، وأعترف أنّ موسيقى هشام نزيه، ساعدت جداً في إبراز هذه العواطف الجيّاشة التي جعلت الجميع يتسابق في الحقيقة ليفوز بأفضل أداء من بين الأبطال.
غلبت نور العاطفة، فنُبذت قهراً، وحتى حينما جعلت عقلها يجلس على مقعد القيادة، كانت تحركه أيضاً عاطفة ولكن في اتجاه مُعاكس، عاطفة الكراهية والانتقام.
غلبت على عماد عاطفة التعلّق، لأنه لم يشعر بالحب منذ أن كان صغيراً، فكبر خائفاً من أن يُترك وحده، وصار مُتعلّقاً في أذيال ليلى في سعادة غامرة. وهكذا مع كل شخصيات المسلسل.
طاردتني المشاعر المعقدة والعواطف الثقيلة في كل مشهد من مشاهد المسلسل، خاصة في الوجوه وهي صامتة، فهي تنطق الكثير من المشاعر.
أما منة شلبي فهي أستاذة متخصصة في هذه الناحية، التعبير بالملامح، والإيحاء بالعيون، كلها أدوات الممثل الناجح، الذي لن يكون غريباً أبداً أن يترشح لجائزة عالمية مثل جائزة الـ Emmy Awards.
كل التوفيق لمنة شلبي، بقدر جهدها الملموس في مسلسل "في كل أسبوع يوم جمعة".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.