مع ارتفاع معدلات الانتحار حول العالم في الآونة الأخيرة نضطر للحديث عن الأسباب التي تدفع المرء منا لإنهاء حياته.
الانتحار لم يعد محض حدث عابر تتناقله وسائل الإعلام أو موجة صغيرة في مجتمع هنا أو هناك، بل ظاهرة لها جذور وفصول في سجلات البشرية تسطر محاولات إيجاد جدوى للحياة، ومغامرات البحث عن أسباب أكثر قوة للعيش من تلك الملقاة على قارعة الطريق، ودفع الأفكار السلبية خارج الدماغ.
الانتحار كرد فعل
يقول عالم النفس النمساوي الأشهر سيجموند فرويد في بحثه "الحداد والسوداوية": "إن حب الأنا هو الدافع البدائي الأول للبقاء على قيد الحياة، وهو دافع قوي جداً تنبع منه الشهوة الجنسية الجارفة للمحافظة على النوع، التي تظهر جلية إذا ظهر ما يهدد حياة الفرد، ولذلك لا يمكننا أن نفهم كيف تسعى الأنا لتدمير ذاتها. نحن نعلم منذ مدة طويلة أن فكرة الانتحار التي قد تحاور الفرد تأتي من رغبته في إيذاء غيره دون أن يتاح له ذلك فترتد الرغبة في إيذاء ذاته، لكننا لا نعلم حتى الآن ماهية العوامل التي قد تجتمع وتدفع الفرد إلى تنفيذ هذه الافكار بالفعل، لكن تحليل الكآبة الآن يُظهر أن الأنا لا يمكن أن تقتل نفسها إلا إذا تحولت إلى هدف للطاقة العدائية المرتدة إليها من الموضوع الآخر في العالم الخارجي والذي كان هدفاً لطاقة الأنا في السابق، وفي خلال هذا الارتداد يكتسب الموضوع طاقة أكبر من طاقة الأنا ذاتها، فيتمكن من السيطرة عليها، ويتضح ذلك في حالتين متناقضتين تماماً، حالة الحب الجارف وحالة الانتحار، وإن كان تعبير الأنا مختلفاً في الحالتين".
يوضح فرويد أن الإقدام على الانتحار قد يكون نابعاً من رغبة الشخص في الانتقام من غيره كالمحيطين به أو المتسببين في حالة المكتئب. فقد يكون هذا دافعاً قوياً بما يكفي ليطغى على غريزة البقاء وينفي وجودها وصولاً لتلك المرحلة، فـ(الأنا) كما يوضح فرويد هي نفس الإنسان المخلوق بغريزة تجعله عاجزاً عن اتخاذ مثل تلك الخطوة، ولكن في مرحلة ما قد تكون الرغبة والأهداف والأسباب أقوى منها.
خلال هذا الشهر انتحرت فتاة مصرية قفزاً من الطابق السادس في مركز تسوّق شهير بالقاهرة. الفتاة صاحبة الـ23 عاماً نفذت قراراً كان يدور في ذهنها وصرحت به لصديقة مقربة لها، كما علمنا فيما بعد.
تبدو الأزمة الكبرى بالنسبة لمن يعانون أكثر من غيرهم هي أن لا أحد يفهمهم، لا أحد يأخذهم على محمل الجد، كذلك لا يتوقف المحيطون بهم عن لومهم بسبب فقدانهم القدرة على التعايش والاندماج في المجتمع.
في مجتمعات عالمنا الثالث لا يحمل أحد هم استقصاء أسباب الانتحار، لا يهتم أحد بعقاب من ساهموا بوصول شابة أو شاب لإلقاء أنفسهم من عل، كلها أشياء لا تهم هذا المجتمع "المتدين بطبعه". جل النقاشات التي تندلع عقب كل حادثة انتحار تدور حول مصير المنتحر الأخروي، هل في النار أم في الجنة؟
بعد انتحار الفتاة المصرية، كان أول إجراء أخذته أجهزة الدولة المختصة هو الكشف عن عذريتها والتأكد من خلو جسدها من أي مواد مخدرة.
منذ عدة أيام انتحر شاب آخر من أعلى جامعة "6 أكتوبر"، شاب في نفس عمر الفتاة تقريباً، ترك رسالة لأهله الذين يعملون في دولة عربية تتكون من ثلاث كلمات: سامحوني، أنا آسف. ثم ترك جسده يسقط من فوق البناية.
كل الدراسات تشير لارتفاع معدلات الانتحار في المناطق الريفية عن المدن، ينتحر الآلاف حول العالم باستنشاق الغاز السام أو الإفراط في المواد المخدرة أو الكيمائية الطبية، وفي مصر تنتشر حالات تناول ما يعرف بحبوب الغلة أو الغرق في مياه النيل أو الحرق.
قديماً، كان يمر الانتحار كحادثة عابرة لوقوعه سراً، أما الآن فلقد أصبح المقدمون على الانتحار أكثر جرأة بسبب موتهم السابق في الداخل.
تُرى بمَ يشعر المرء خلال لحظات سقوطه؟ على ما يبدو أن الجرأة التي باتت تصاحب فعل الانتحار والتي لا يمكن إغفالها باتت تؤكد على وجود رسالة ما يعلنها المنتحر، هل هي الرغبة في الاعتراض؟ الرغبة في التحرر والخلاص من القيود؟ أم أنه التوق للتحرر من السلطة الخانقة كما كان في حالة فتاة مركز التسوق التي أكد والدها أنهم كانوا في خلافات مستمرة دوماً بسبب تضييقه الخناق عليها في كل شيء!
يبدو تسلسل الحوادث واتباع نفس الطريقة نتيجة لما يمر به هذا الجيل من صعوبات وضغوطات كبرى في كل مجالات الحياة، بداية من الأسرة ووصولاً للجامعة والوظيفة.
الانتحار نتيجة الصدمة
في الفيلم التسجيلي "The Wisdom of Trauma" الذي يتناول حياة عدة أشخاص يعانون من الاكتئاب، الإدمان، أو القلق تتحدث امرأة عن فقدانها لوالدها في سن الـ10، تقول إنها تربت في الشوارع وإنها لم تكن تخشى القانون، ما الفارق بين العيش مشرداً أو مسجوناً؟ تجيب هي بأنه لا أحد سيفتقدها.
بينما يحكي رجل آخر عن معاناة أسرية أخرى، أدمنت والدته الخمور بينما أدمن والده ممارسة الجنس، بينما بدأ هو في تعاطي الهيروين في الـ26 من عمره.
في سجن شديد الحراسة بولاية كاليفورنيا الأمريكية يحكي سجين يقضي عقوبة المؤبد لارتكابه جريمة قتل وهو في سن الـ20 من عمره عن أكبر صدمات حياته، يقول إن والده كان مثله الأعلى، وفي عمر التاسعة تم ترحيل والده خارج أمريكا ولم يعد بعدها.
تتشكل الصدمة غالباً في مراحل الطفولة حيث يتخزن كل ما يحدث في منطقة عميقة داخل نفوسنا ومن ثم يظهر حينما نستطيع أن ندركه أو نتخذ معه رد فعل مناسباَ فيما بعد.
في نفس السجن يقول أحد المساجين إنه يمكن لأي شخص أن يصيبك بصدمة نفسية عنيفة تصبح بعدها شخصاً آخر. ويتساءل عن أعراض الصدمة النفسية بالنسبة للآخرين وتتنوع الإجابات بين الشعور بالعار، الأرق، الكوابيس الليلة، عدم القدرة على الحب، التوجه للإدمان، والاكتئاب، كلها علامات تدل على التعرض لصدمة شديدة.
تحكي امرأة أخرى عن أكبر دوافعها لإدمان المخدرات لأنها وفي عمر الـ16 تم اختطافها وبيع عذريتها. تقول إنه لا أحد حاول البحث عنها وإنها كانت تتعرض للضرب من قبل والدها، تحكي عن الألم، لا تتذكر الأسباب التي كانت تجعل الأحزمة تنهال على جسدها الصغير، لكنها تتذكر الألم الذي كانت تشعر به، تتذكر وحدتها وأنه لا أحد دافع عنها أو تحدث معها، تتذكر تخاذل أمها المضروبة بذات الأحزمة، مما يعني سلسلة طويلة من الآلام المدفونة داخلياً.
يقول الطبيب النفسي والكاتب المجري الكندي جبور ماتيه: "للطفل حاجتان أساسيتان، حاجة واحدة منذ الصغر وهو أمر مطلق وغير قابل للتفاوض، وهو التعلق؛ وبالتالي فإن الحاجة الأخرى هي الأصالة. الأصالة هي الارتباط بأنفسنا، لأنه بدون أصالة، دون اتصال بمشاعرنا الغريزية فقط كم من الوقت يمكنك البقاء على قيد الحياة هناك في الطبيعة؟".
هل تتوقع أن "جبور ماتيه" لم يتعرض لصدمات أو رغبة في الانتحار؟ يقول جبور بنفسه بأنه بالرغم من كل نجاحاته كان يشعر بهذا وأنه عانى من نفس المشاعر، لم؟ لأننا جميعاً نتشارك في الشعور بالألم.
أزمة المكتئبين
تكمن أزمة الأشخاص المكتئبين في كونهم أكثر حساسية من غيرهم، يعتقدون أنه لا أحد يمكنه الشعور بما يشعرون به، يفتقدون للحب غير المشروط، لأنهم في الغالب لم يحظوا به في أي وقت سابق، وربما على العكس حينما يحظى المرء بأشياء عديدة داخل المنزل تنشأ صدمته حينما يبدأ في التعرف على حقيقة العالم بالخارج باعتباره وحشاً رأسمالياً أو نظاماَ ديكتاتورياً. لا يوجد قالب معين للصدمة أو نمط معين للتجاوز، كل الأشياء في هذا العالم من الممكن أن تكون مفجعة، ولكن تكمن الحكمة دائماً في قدرتك على التجاوز، في السيطرة على الأمور، في الكثير من الأحيان تفيدك استشارة الطبيب النفسي، يفيدك الحديث مع الآخرين عما بك، لا تتوقف عن فعل هذا، الاكتئاب لا يصيبك لأنك شخص سيئ أو جيد، الاكتئاب يشبه أي مرض آخر، هل يمكنك إدانة أي شخص مصاب بارتفاع ضغط الدم مثلاَ؟ إذاَ لماذا تسمح لهم أن يدينوا إصابتك بالقلق أو الاكتئاب؟
في هذه الحياة أنت تصنع كل شيء بطريقتك، لا أحد يحق له لومك، لذا حينما تشعر بأن الأمور تسوء أعلن هذا للجميع، اصرخ واكتب المنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي، اذهب للطبيب واحصل على الدعم الذي تستحقه، وتذكر أننا جميعاً معرضون لهذه الأشياء، لأننا بشر، ومن الطبيعي أن نتأثر بأبسط الأشياء.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.