ربما نلمس لمْس اليد وبشكل مباشر حجم التغيرات والتبدلات التي طرأت على أفغانستان الجديدة، ولكن كثيرين يجهلون حجم التغيرات التي طرأت على "الطالبان الجدد"، وهذا طبيعي وعادي، في ظل غياب الحركة الطالبانية عن العالم طوال عشرين عاماً، في الجبال والوديان والكهوف تقارع الاحتلال الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، يُضاف إلى هذا الجهل سببٌ آخر، وهو الضغط على الإعلاميين في بعض الدول لعدم مقابلة قادتها ورموزها، أو نقل أخبارهم، بذريعة أن ذلك تمجيدٌ للإرهاب؛ مما جعل منها أحجية ولغزاً للكثيرين، فحُرم العالم التعرف على التطور الذي أصاب الحركة طوال السنوات الماضية، ولذا فنحن بحاجة لوقت كافٍ لنعرف ما إذا كانت طالبان قد تغيّرت وتبدلت، أم لا؟، وإن كانت كل المؤشرات تشير إلى حصول هذا التغير والتبدل، ولكن إلى أي حد حصل ذلك؟، وهل هذا التغير سيواكب ويتوافق ويتواءم مع حجم التغيرات التي أصابت أفغانستان خلال العقدين الماضيين؟ بما يكفل للحركة أن تُبحر بالسفينة الأفغانية بسلام ووئام في المرحلة المقبلة، أسئلة ثمن الإجابة عليها ربما ملايين الدولارات، ولكن الزمن وحده من سيجيب عن هذا كله.
أفغانستان اليوم ليست أفغانستان عام 2001 يوم ودّعتها حركة طالبان، إذ لم تكن حينها أجهزة الآيفون، ولا التويتر ولا الفيس بوك، ولا غيرها من منصات التواصل الاجتماعي موجودة، وبينما كان عدد مستخدمي النت عام 2005 في أفغانستان مليون مستخدم فقط، قفز الرقم عام 2019 إلى 22 مليون مستخدم، يذكر أن عدد سكان أفغانستان يصل إلى 40 مليون نسمة، وبحسب شركات قياس السوق الدولية فإن أكثر من 70% من الأفغان يستخدمون النت. ويذكر أن أكثر من 60% من الشعب الأفغاني أعمارهم تحت سن الخامسة والعشرين عاماً، بمعنى أن هؤلاء جميعاً حين خلع التحالف الدولي حركة طالبان عن السلطة عام 2001 كانت أعمارهم خمس سنوات فحسب، ومن ثم فإن طالبان بالنسبة لهؤلاء تاريخاً وليست ذكريات، وكل ما حصل هؤلاء عليه خلال العقدين الماضيين من حياة ترف بالنسبة للأجيال السابقة، كالتعليم والكهرباء والنت، وحرية الإعلام ومشاركة النساء في العمل وخدمات الصراف الآلي بالإضافة إلى الكهرباء، لن يكون من السهل انتزاعها منهم أو حرمانهم إياها، ولعل هذا ما دفع طالبان بعد وصولها إلى كابول إلى عدم إصدار أي قرار قد يفسر تضييقاً على حياة الناس وسلوكهم، كقراراتها في زمن الإمارة الأولى والتي امتدت لخمس سنين 1996-2001.
رئيس المكتب السياسي وكبير مفاوضيها مع الأمريكيين الملا عبدالغني برادر الذي يعد عديلاً لمؤسس الحركة الملا محمد عمر، عكس تلك المخاوف كلها في خطاب التهنئة الذي وجهه إلى مقاتليه والشعب الأفغاني عشية سقوط العاصمة الأفغانية، فقال لقد بدأ الآن الاختبار الحقيقي، فـبرادر الذي خاض جولات مفاوضات قاسية مع قوة عالمية بحجم الولايات المتحدة، توّجه لتوقيع اتفاق معها يرغمها على الانسحاب، بالإضافة إلى زياراته لعواصم عالمية ولقائه قادتها، إنه يدرك تماماً تضاريس السياسة الدولية المتعرجة وصعوباتها، وقدرة الدول الأجنبية على إكراه الحركة، والضغط عليها، ويدرك تماماً أن التحدي الاقتصادي الأفغاني سيكون قاسياً على الحركة مستقبلاً إن حصل، ففي أفغانستان اليوم 300 ألف جندي أفغاني ورثتهم طالبان عن الحكومة الأفغانية، ومهما قيل عن فساد الحكومة، وإن هذه الأرقام شبحية، وغير حقيقية، فلو كان نصف العدد أو أقل منه حقيقياً، فإن دفع رواتب لهم سيكون ثقيلاً على الحكومة المقبلة، وإلاّ فخيار التخلي عنهم، ربما يدفعهم ليكونوا بنادق للإيجار وللاستخدام، فضلاً عن إمكانية اندلاع اضطرابات اجتماعية قد تهزّ البلد من جديد. ومع هذا فإنَّ هناك رواتب موظفي الدولة في الوزارات المختلفة، والتي ينبغي دفعها بشكل شهري، ومع تجميد واشنطن لتسعة مليارات دولار كانت في بنوكها لصالح الحكومة الأفغانية، أعطى هذا مؤشراً على أن العقوبات الاقتصادية التي لوّحت بها ألمانيا وغيرها قد تكون هي السيف المسلط المقبل بالنسبة لواشنطن للضغط على الحركة، لكن بالتأكيد الأخيرة لديها مساحة للمناورة عبر علاقاتها مع الصين وغيرها من الدول.
الخدمات التي وفرها الاحتلال خلال عقدين من الزمن كالكهرباء القادمة من دول وسط آسيا، تنتظر فاتورة شهرية؛ مما يشكل تحدياً كبيراً أمام الحكومة المقبلة، ومن ثم فإن اقتصاد الظل أو الاقتصاد السري والخفي الذي كان معمولاً به في ظل حكومة طالبان الأولى غدا منتهي الصلاحية، ولا يمكن أن يعمل في ظل التطورات الأفغانية الكبيرة والضخمة والهائلة المتشابكة مع العالم وتقنياته، ولعل هذا ما دفع طالبان للدخول في تفاوض مع أطراف الحكومة السابقة مثل الرئيس السابق حامد كرزاي، وزعيم الحزب الإسلامي قلب الدين حكمتيار، ورئيس لجنة المصالحة عبدالله عبدالله، ويتوقع أن تلجأ الحركة إلى تشكيل حكومة ائتلافية على أن تستأثر بالوزارات السيادية وعلى رأسها الدفاع والداخلية والمالية والمخابرات؛ لتترك بقية المناصب للشخصيات الأفغانية السابقة وغيرها، لتتولى مهمة الترويج للحكم الجديد وطمأنة العالم، فكسب الاعتراف الشرعي الدولي يمثل كابوساً حقيقياً للحركة؛ ولذلك تبذل جهداً كبيراً من أجل نيله والحصول عليه.
على الصعيد الداخلي سارعت طالبان فور دخولها العاصمة الأفغانية إلى طمأنة الأقليات، فشارك أحد مسؤوليها بمجلس عزاء شيعي، وطالبهم بعدم استفزاز وإغضاب الأغلبية السنية خلال احتفالاتهم، كما سمحت في اليوم الثاني بمواكب عزائية وسط كابول، وهو ما لم يكن مسموحاً به خلال الإمارة الأولى، كما سعت بالمقابل إلى تطمين الأقلية السيخية في ممارسة شعائرها وطقوسها، ومنحها حرية العبادة والفكر. أما على صعيد المرأة التي تشكل كابوس العالم كله في أفغانستان فقد شدد الناطق الرسمي باسم الحركة على أنه سيكون مسموحاً لها بالتعليم والعمل شريطة أن تكون كفؤة ومرتدية الحجاب الإسلامي.
المشهد السيميائي لدخول مقاتلي حركة طالبان الأفغانية القصر الرئاسي في كابول عكس حجم التغير والتبدل الذي طرأ على الحركة الطالبانية، وهي بحاجة إلى جهد كبير لتقنع العالم بأنها لم تعد هي ذات الحركة عام 2001، لقد شاهد العالم كله وعلى الهواء مباشرة دخول قادة الحركة إلى القصر بهدوء وسكينة، واحترامهم للعلم الأفغاني، وإن كانوا قد قاموا بتغييره لاحقاً، ورفعوا العلم الطالباني؛ مما تسبب في مظاهرات احتجاجية على ذلك، ولكن تظل طريقة التعاطي مع العلم ولفّه بشكل محترم، ثم مراسيم نقل السلطة من المسؤول الأمني للقصر إلى قيادة طالبان، التي كانت أشبه ما تكون بتسلم السلطة وتسليمها، أوحت بأن الحركة ليست تلك الحركة التي صورتها وسائل الإعلام الغربية على أنها حركة متوحشة، إرهابية عنفية لا تعرف إلا القتل والتعامل مع الجماعات المصنفة دولياً على أنها إرهابية.
العالم كله من واشنطن ولندن وباريس وروما إلى بكين وموسكو ودلهي وطهران وغيرها، أصابته الدهشة من سرعة انهيار الحكومة الأفغانية، وبسرعة سيطرة الحركة الطالبانية على مقاليد الأمور في كل أفغانستان دون إراقة دماء، وإنما من خلال القوة الناعمة التي فككت بها الجيش الأفغاني، فتمكنت من السيطرة على كل معداته وأسلحته المتطورة، التي تقدر بمليارات الدولارات، وهو الجيش الذي أنفقت عليه أمريكا طوال عقدين من الزمن 83 مليار دولار. هذا العالم اليوم كله ينتظر ويترقب كيفية تعامل الحركة مع الحركات المطلوبة لديه والمقيمة عنده. كل دولة لها منظمة مطلوبة في أفغانستان وتحظى بعلاقات مع طالبان، فالغرب يخشى من القاعدة وتنظيم الدولة، والصين تخشى من الحركة الإسلامية التركمانية، وباكستان لديها حركة طالبان الباكستانية المتهمة بالعلاقة مع الهند، وتنفيذ أعمال عنف في داخلها، وآخرها استهداف حافلة تقنيين صينيين في جنوب شرق باكستان، والهند تخشى من الحركات الجهادية الكشميرية، وهي التي لا تزال تعيش كابوس ما بعد الانسحاب السوفييتي من أفغانستان وانطلاق انتفاضة كشمير وازدهار العمل المسلح الكشميري ضدها، وهناك أيضاً روسيا التي تخشى من الجماعات الإسلامية الشيشانية والأوزبكية والطاجيكية الموجودة في أفغانستان، أما إيران فتخشى من الجماعات السنية البلوشية الإيرانية التي كانت موجودة في زمن الإمارة الأولى، وتظل كثير من دول العالم تحسب حساباً لظاهرة الأفغان العرب التي كان مهدها أفغانستان أيام الجهاد الأفغاني وما بعده، لكنها تحديات وتهديدات كثيرة، ومع هذا يظل السؤال الكبير هل المسموح به دولياً إنجاح التجربة الطالبانية أم تفشيلها، وفي حال الثانية فقد يدفع العالم ثمناً باهظاً لن يتوقف حده حينها على الغرب فقط أو على أمريكا تحديداً.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.