تعيش ليبيا، الدولة الشمال إفريقية المتوسطية، أزمات متتالية؛ ما بين فوضى أمنية وحروب طاحنة وتنامٍ للإرهاب ومسيرة أشبه بالمتعثرة نحو التحول الديمقراطي الحقيقي الذي منعته قوى عربية وإقليمية عن طريق إشعال الحروب، وتارة أخرى عن طريق تحريك قوى دولية تئِد أي جنين يُحتمل أن يولد.
من بين تلك الظروف تضاد المواقف بين تركيا ومصر؛ بدايةً من عزل الرئيس مرسي في 2013 ووصول الرئيس السيسي لقصر الاتحادية، وموقف تركيا من هذه العملية، كما التصادم الحقيقي بين الموقفين في أغلب القضايا الإقليمية والإسلامية وحتى العربية. منذ 2013 حل بالعلاقات التركية-المصرية خريف قاسٍ أتى على الأخضر واليابس وأدى تقريباً إلى انقطاعٍ شبه كامل في العلاقات الدبلوماسية وإلى استقطاب حاد وصل أشده حتى على منصات الجمعية العمومية للأمم المتحدة.
ليبيا أيضاً كساحة نزاع وحرب بالوكالة بين البلديين الأكبرين في الهلال السني عانت ما عانت منه من تباين مواقف الدولتين ودعمهما لأطراف النزاع والتي تجلت بوضوح خلال المواجهات العسكرية على أسوار طرابلس، حيث دعمت مصر خليفة حفتر بل ساهم الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في تنسيق مكالمة هاتفية بين حفتر والرئيس الامريكي السابق دونالد ترامب في الأيام الأولى لبداية الاشتباكات.
تركيا من جانبها دعمت حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دولياً برئاسة فايز السراج ووقَّعت مع طرابلس اتفاقية أمنية وتجارية وترسيم الحدود البحرية بين البلدين؛ مما يهدد حلم إنشاء خط ميد إيست (mid east) الذي من المفترض أن يُصدر الغاز من شرقي المتوسط إلى اليونان ثم إلى أوروبا.
التدخل العسكري التركي على الأراضي الليبية كان حاسماً وأدى إلى تقهقر القوات المعتدية على طرابلس، والتي كانت قوات مرتزقة فاغنر الروسية جزءاً لا يتجزأ منها مما أثار قلق مصر نفسها- بعد قلق واضح غيّر نظرة الولايات المتحدة لحيثيات الصراع على أسوار طرابلس- وإمكانية ابتعادها عن المشهد الليبي وخروجها خالية الوفاض مع إمكانية تنسيق تركي-روسي عال المستوى في ليبيا، خاصة أن إخراج تركيا ليس بالأمر السهل؛ خاصة بعد ضوء أخضر أمريكي للتدخل لتحجيم الدور الروسي في ليبيا.
صقور المواجهة
الفلك الذي تحوم فيه الدولتان هو فلك الولايات المتحدة؛ بمعنى أن تركيا أتت لليبيا بدوافع سياسية واقتصادية وتمكنت من ترسيم منطقتها الاقتصادية مع ليبيا، كما أن مصر دولة مهمة بشكل كبير جداً للإدارة الأمريكية وأن تعزيز علاقات مصر وتركيا سيكون ضربة البداية لتدشين إنهاء الدور الروسي في ليبيا والذي تمدد في فراغ فترة أوباما وتماهي ترامب مع موسكو.
بعد انتهاء المواجهات العسكرية وتوقيع اتفاق وقف إطلاق النار بين قوات حفتر وحكومة الوفاق في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي انفتحت القنوات الليبية المصرية على بعضها؛ حيث زار وزير داخلية حكومة الوفاق فتحي باشاغا القاهرة لمباحثات أمنية، ورد الجانب المصري في ديسمبر/كانون الأول الزيارة لطرابلس معلناً عن بدء التحضيرات لافتتاح سفارة مصر في طرابلس المغلقة منذ 2014 نتيجة تدهور الأوضاع الأمنية في العاصمة؛ بحسب مصادر رسمية مصرية.
على نطاق آخر في مارس/آذار من العام الجاري قامت السلطات التركية بالتواصل مع معارضين وقنوات معارضة مصرية تبث من تركيا لمحاولة رسم خط تحريري جديد مع السلطة المصرية للبدء في إعادة تدابير بناء الثقة بين البلدين، وسط رسائل ترحيب من رئاسة الوزراء والخارجية المصرية، وزيارة وفد تركي للقاهرة في مايو/أيار الماضي لغرض ترسيم الحدود البحرية بين البلدين، والتي ترى مصر أنها ورقة ضغط مهمة في شرقي المتوسط بعد منازعات مع دول منتدى الغاز المتوسطي (إسرائيل وقبرص واليونان).
عوداً على بدء؛ فالملف الليبي الأكثر التهاباً، من الواضح أن صقور المواجهة قد لا يكونون مقنعين للأطراف المتضادة، وأن الارتماء في حضن أنقرة دون القاهرة أو العكس قد يسبب حالة نفور نتيجة ريبة تلك التحركات.
سياسة تصفير المشكلات الليبية
تسعى ليبيا قريباً ولأول مرة في تاريخها لانتخاب رئيسها بشكل مباشر من الشعب؛ ومن الطبيعي أنه لنجاح الرئيس أن يتمتع بقبول وترحيب شعبي وعلاقات دولية، وبهامش مناورة بين المتضادين مصر وتركيا وفرنسا وروسيا والولايات المتحدة، وهامش المناورة هذا مفقود إلا لدى شخصيات محدودة أعلنت نيتها للترشح.
يمكن قراءة أن الموقف المصري يسعى لإيجاد علاقات طيبة مع تركيا وأعتقدُ أيضاً أن العكس صحيح، لكن الترتيبات غاية في التعقيد والمناكفات السياسية لن تتوقف مع وجود قوة اقتصادية بين البلدين وتنسيق أمني على مستوى رفيع. رئيس ليبيا الجديد لا بد أن يمتلك هامش المناورة بين المتنازعين بل قد ينتقل الرئيس إلى إمكانية إيجاد أرضية مشتركة بين الدولتين اللتين تسعيان لإعادة ربيع العلاقات بينهما دون تقديم أي تنازلات معلنة قد تنقض مواقف الطرفين القديمة أو قد تؤثر على شعبية أحد الأطراف.
هذا الدور قد يكون أشبه بلعب دور مصالحة أو تقارب بين البلدين وسيكون الرابح الأكبر هو ليبيا؛ عن طريق إخراجها من دائرة الاستقطاب وتصفية الحسابات بين الدول والكيانات الكبرى، وربما هو أشبه بدور كثر منهم أحمد داوود أوغلو وزير الخارجية التركية الأسبق الذي تبنى مبدأ تصفير مشاكل الدول مع الدولة التركية حتى حصل على أثمن الموجود؛ وهو الوقت الذي استغلته الحكومة أفضل استغلال للظهور كمارد إقليمي في العشرية الأخيرة.
التقارب المصري-التركي سيكون قاب قوسين أو أدنى من التحقيق وخطاب الإقصاء والعدوانية لن يجلب لليبيا إلا الحروب بالوكالة والتوتر واشتعال بؤر الاستقطاب مجدداً، هي سياسة تصفير المشاكل وابتكار منظومة إطفاء الحرائق والرقص على رؤوس الثعابين.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.