يتحدث هنري كيسنغر عن رامسفيلد في مذكراته "سنوات التجديد" عند قدوم رامسفيلد في ولايته الأولى كوزير للدفاع في عهد فورد قائلاً: "كان رامسفيلد بارعاً في استبعاد كل مسألة خلافية بطريقة بيروقراطية أو بأخرى"، أما الرئيس الأمريكي نيكسون فاختصر رامسفيلد في كلمات بسيطة قائلاً: "إنه لنذل عديم الرحمة، هذا أمر مؤكد". وربما تلك الجمل هي التي تلخص مسيرة رامسفيلد وقدرته الدائمة على إقصاء منتقديه داخل البيت الأبيض، والمضي قدماً في تنفيذ ما اعتزم فعله.
رحيل الصقر الأكبر
عن عمر يناهز 88 عاماً، رحل دونالد رامسفيلد، كان رامسفيلد رجلاً ذا تاريخ حافل على المستويين المهني والسياسي، وذا ثروة طائلة كرجل أعمال، فترك وراءه إرثاً تاريخياً من الأعمال كمخطط للسياسة الأمريكية، وإرثاً طائلاً من ملايين الدولارات كرجل أعمال، وإرثاً مسموماً في دماء مئات الآلاف من البشر الذين ماتوا بجرة قلم من السيد دونالد رامسفيلد.
خدم رامسفيلد أربعة رؤساء للولايات المتحدة الأمريكية، وقد كان وزيراً للدفاع في عهد جيرالد فورد، وعهد بوش الابن، والمفارقة في الحالتين أنه في ولايته الأولى كان أصغر من يتولى هذا المنصب عن عمر 43 عاماً، وفي ولايته الثانية أنه كان أكبر من يتولى هذا المنصب عن 74 عاماً.
كان رامسفيلد قومياً عدوانياً حاد الطباع من حقبة الحرب الباردة، وقد عمل على مستويات متوسطة في إدارة ريغان وقد كان يعتنق مثالية الصقور المحافظين الجدد، وكان دوماً ما يشكل حلفاً قوياً داخل البيت الأبيض مع صديقه وصنيعه ديك تشيني الذي كان نائباً لبوش الابن، وكان الرجل الكريه على طاولة الاجتماعات؛ لأنه كان يستمتع بالصراعات التي يجريها مع منافسيه في مجلس الوزراء وأعضاء الكونغرس والعسكريين، حتى إنه كان ينظر إليه كأقوى وزير للدفاع منذ روبرت مكمنارا في عهد الحرب على فيتنام، وتمتلئ سيرة تشيني بالكثير من المحطات، فقد كان الرجل ضليعاً في السياسة الأمريكية منذ أن كان جندياً في الحرب الكورية، ولكن لنتوقف أولاً عند سيرته كاقتصادي.
بعيداً عن السياسة
أمضى دونالد رامسفيلد عشرين عاماً قبل رئاسته الثانية لوزارة الدفاع في رئاسة الشركات المتعددة الجنسيات، وكان يقودها إلى عمليات دمج واستيلاء مأساوية ويخضعها لإعادة هيكلة مؤلمة، وحقق ثروة تقدر بنحو 250 مليون دولار، وكان قد بدأ يرى نفسه رجل الاقتصاد الجديد.
كان لرامسفيلد بعيداً عن السياسة مجالات اقتصادية أدارها بلا أخلاقية تعادل إدارته في السياسة، وفي إطار تحديثه للقوة العسكرية للجيش الأمريكي، سعى رامسفيلد لضرورة إجراء تخفيضات في عدد الجنود الذين يخدمون بدوام كامل لصالح فرق أركان جوهرية صغيرة، واستبدالهم بجنود يعملون بدوام مؤقت ويتقاضون أجراً أرخص، تلك الصفقة التي آلت لشركتي هاليبورتن وبلاكووتر سيئة السمعة، واللتين توليان مسؤوليات قيادية خطيرة كالتحقيق مع السجناء والرعاية الصحية والتموين.
في عام 1997 كان رامسفيلد رئيساً لمجلس إدارة الشركة البيوتكنولوجية جلعاد ساينسز، وكانت الشركة قد سجلت براءة اختراع "تاميفلو" الذي سيعالج إنفلونزا الطيور الذي كان يجتاح العالم آنذاك، وفي حالة تفشي الفيروس شديد العدوى، فإن الحكومات ستضطر إلى دفع بلايين الدولارات للشركة لشراء اللقاح.
وعلى رأس نفس الشركة بقيادة رامسفيلد، كانت تمتلك براءة اختراع لأربعة علاجات للإيدز، وقد بذلت طاقة كبيرة في محاربة توزيع أنواع أخرى أقل ثمناً في العالم النامي، وقد أرست سياسة ترى في حالات العدوى حملة تسويقية كاسحة تشجع المؤسسات والأفراد على تخزين أقراص "الأوميفل" لحالات الطوارئ، مما عاد على الشركة بأرباح هائلة تحت قيادة رامسفيلد، لقد راهنت الشركة بقيادة رامسفيلد كما تورد الكاتبة ناومي كلاين في كتابها "عقيدة الصدمة" على مستقبل مظلم تنتشر فيه الأمراض، تضطر فيه الحكومات إلى الشراء من القطاع الخاص الحاصل على براءات الذمة للأدوية التي تعالج حيوات الكثيرين.
اشتهاء العراق
للعراق ورامسفيلد قصة بدأت بعيداً من سنوات الحرب، وسقوط بغداد الذي أعقبه سقوط رامسفيلد.
في عهد الرئيس رونالد ريغان، كانت أقدام رامسفيلد تطأ الشرق الأوسط للمرة الأولى، فقد كان مبعوث ريغان الخاص، وأصبح معبراً لتقديم المخابرات الأمريكية والمساعدات العسكرية للعراق بين عامي 1983 و1984 في خضم الحرب العراقية الإيرانية، في تناقض ساخر مع إسقاطه لصدام حسين فيما بعد، كان رامسفيلد هو الذي رمم عرش صدام حسين الذي كان يتهاوى بسبب الحرب مع إيران.
وبانهيار الاتحاد السوفييتي شعر المحافظون الجدد بالانتصار التاريخي؛ كون الولايات المتحدة الأمريكية أصبحت القوة الوحيدة في العالم، وقد أمضوا سنوات التسعينيات وهم يراقبون عودة إدارة بوش الأولى إلى المثالية الضيقة، وانتقال إدارة كلينتون من أزمة لأخرى، وتلك الأشياء هي التي بددت ما حققه ريغان من انتصار، وقد زاد الشقاق بينهم وبين البيت الأبيض خاصةً في عهد كلينتون، حين أخبر رامسفيلد ساندي بيرجر مستشار الأمن القومي لكلينتون صراحةً أن بيل كلينتون ينتهج نهجاً ضعيفاً فيما يتعلق بسياسات أمريكا خارجياً.
ومن هنا جاءت فكرة مشروع القرن الأمريكي الجديد.
ساهم رامسفيلد مع صديقه تشيني في تأسيس معهد مشروع القرن الأمريكي الجديد PNAC، لمواجهة ما اعتبروه انحرافاً في سياسة الرئيس بل كلينتون الخارجية والدفاعية، وقد عزز تأسيس المعهد وقوف التحالف القوي بين الجناح اليميني من الجمهوريين من أمثال تشيني ورامسفيلد وبين زعماء اليمين المسيحيين من أمثال غاري بووير ووليام بينيت.
كان المعهد يمثل الانبعاث الأحدث لمجموعات من الصقور يهيمن عليها محافظون جدد يهود من عهد السبعينات عندما حاربوا الجناح المناهض للحرب في الحزب الديمقراطي، قبل أن ينضموا لجمهوريين بارزين في معارضة الوفاق مع موسكو من أمثال رامسفيلد، وكان المعهد هو القوة الدافعة وراء صوغ قانون "تحرير العراق" لتخفيف الضغط على إسرائيل، وتمريره في شكل قانون يرسم واجهة قانونية للخطط الكبرى للحرب على العراق، وظهرت تواقيع الأعضاء البارزين في المعهد على رسالة موجهة للرئيس كلينتون عام 1998 تنتقده بسبب عدم تنفيذه القانون بإرسال جنود إلى بغداد، وكان المعهد مسؤولاً عن دعم المؤتمر الوطني العراقي لعراقيي المنفى بتمويله بملايين من الدولارات لتشكيل لجنة لتحرير العراق، التي سعت لوضع أحمد الجلبي على رأس السلطة في العراق بعد إسقاط صدام.
بروج نيويورك المشيدة
في رئاسته لوزارة الدفاع في عهد بوش الابن، كان رامسفيلد يأمل في تحديث مؤسسة عسكرية عتيقة؛ من خلال القضاء على بيروقراطية البنتاغون المتضخمة، وتبسيط أنظمة الأسلحة، وتطوير درع دفاع صاروخي، وإنشاء قوات أصغر وأكثر قدرة على الحركة وفتاكة، بحيث يمكنها التحرك في جميع أنحاء العالم وإخماد الاضطرابات الإقليمية، لكن كل تلك الأحلام صدمتها طائرتان من تنظيم القاعدة، واستيقظ رامسفيلد على واقع حقبة جديدة محفوفة بالمخاطر، حين أعلن رئيسه بوش الحرب على الإرهاب، وأصبح رامسفيلد موكولاً بتنفيذ الخطط الاستراتيجية لتلك الحرب، وبدأت تلك الحرب من غزو أفغانستان، لقمع نظام طالبان، ومطاردة أسامة بن لادن.
وفي أعقاب الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 وغزو أفغانستان وسقوطها في حرب خاطفة، أصبح رامسفيلد العبقري الاستراتيجي الذي لا يجرؤ أحد على الشك فيه، وكانت حرب أفغانستان هي التي مهدت للحرب على العراق المشتهَى منذ سنوات في فكر المحافظين الجدد، إلا أن أفغانستان ما بعد الحرب والفشل الأمريكي بتأمينها وإعادة بنائها، كانت تشي بمصير عراق ما بعد الحرب.
ورغم معارضة المجتمع الدولي للحرب على العراق، وبطلان حجة أسلحة الدمار الشامل، قرر بوش إعطاء إنذار لصدام وأبنائه لمغادرة البلاد خلال 48 ساعة وإلا سقطت بغداد تحت دبابات الجيش الأمريكي، وهذا ما حدث بالفعل حين نشر السيد رامسفيلد جنوده في العراق.
كان رامسفيلد بوصفه من المحافظين الجدد يميل دائماً للتهويل إعلامياً من قوة الآخر، فمن يستمع لرامسفيلد وهو يتحدث عن أسلحة الاتحاد السوفييتي قبل 30 عاماً من الحديث عن أسلحة الدمار الشامل في العراق، لا يجد فرقاً سوى أن رامسفيلد قد ازداد شيباً.
وكان ظاهراً للمعارضين أن خطط رامسفيلد هي خطة قصيرة المدى تبدأ بنجاحات باهرة وتنتهي بكوارث، ربما هذا يظهر في حديث دار بين جوزيف بايدن والكاتب جورج باكر أورده في كتابه بوابة الحشاشين؛ حيث قال بايدن لباكر إن: "العنصر المسيطر لإدارة المحافظين الجدد رامسفيلد، لم يعودا ملتزمين ببناء أمة بعد الحرب أكثر من التزام هذه الطاولة بالذهاب إلى المنزل معي في جيبي الخلفي، لذا فأنا أنظر إلى أفغانستان بوصفها أنموذجاً، اللوحة التي يرسم عليها مستقبل العراق".
العراق كمختبر
"إنها أمور تحدث، وهي غير مرتبة، والحرية غير مرتبة، والناس الأحرار لهم الحرية في ارتكاب الأخطاء والجرائم والقيام بالأمور السيئة".
– دونالد رامسفيلد معلقاً على الفوضى في العراق في أعقاب الحرب
كان رامسفيلد ينظر إلى الفوضوية ويرى أنها أولى مراحل الديمقراطية، وكانت نظرته ونظرة الآخرين في أمريكا إلى الحرية على أنها عدم وجود القيود، وأن الحرية موجودة في طبيعة الإنسان، وليس في المؤسسات والقوانين، فإذا أزيل طغيان عمره خمس وثلاثون سنة فستنمو الديمقراطية مكانه، لأن الناس في كل مكان يريدون الحرية، كانت تلك النظرة لرامسفيلد مريحة أكثر من أي شيء آخر، حيث لم يكن في عمله ما يوحي بأنه قد فكر في موضوع العراق في أعقاب الحرب.
عامل رامسفيلد العراق كمختبر لنظرياته، التي كان يروح نتاجها آلاف القتلى، وقد كانت الفوضى هي سياسة متبعة من رامسفيلد، فحينما قدمت له باربرا بودين المسؤولة في مكتب إعادة الإعمار في العراق عرضاً موجزاً عن إدارة العراق بعد سقوط النظام، أكدت فيه أن الحاجة الفورية لموظفين حكوميين لم تعد رفاهية، وأنهم ضرورة للتصدي للفوضى، أخبرها رامسفيلد أنه غير مستعجل على الإطلاق، فالعراقيون يمكنهم أن ينتظروا أسابيع أو شهوراً، وإذا حدثت الفوضى، فهذا جيد، فبإمكانه أن يقنع الدولة الأوروبية القديمة بالمشاركة في قوات الاحتلال.
إلا أن تلك الفوضى، سرعان ما تحولت لنيران طالت رامسفيلد المحنك نفسه، وكتبت نهاية لتاريخه المهني، فكانت الحرب أشبه بالقشة التي قصمت ظهره، فالفشل الكارثي الذي لحق بالجيش الأمريكي في العراق وعدد الضحايا الأكبر منذ حرب فيتنام، كانا قد أنتجا فاتورة باهظة التكليف للخسارة الأمريكية، بلغت 700 مليار دولار و4400 قتيل، فضلاً عن تحويل الموارد من الصراع في أفغانستان؛ مما أدى إلى عودة طالبان من جديد برغم غزو الولايات المتحدة لأفغانستان.
ولكن رامسفيلد صنع وهماً لنفسه ظل يصدقه حتى مماته، حين ذكر في مذكراته Known and Unknown المنشورة عام 2011: "إن تخليص المنطقة من نظام صدام الوحشي خلق عالماً أكثر استقراراً وأماناً".
كان رامسفيلد في أفغانستان والعراق يجادل بأن احتلال تلك المناطق لا يحتاج سوى الحد الأدنى من مستويات القوة اللازمة لتحقيق الانتصارات، وهو ما كان يعرِّضه للهجوم من منتقديه بأنه لا يحمل خطة قابلة للتطبيق لفترة ما بعد الحرب في أي من البلدين، وأن تصميمه على ضرب العراق بقوة خفيفة وسريعة سيشل قدرة الجيش بعد الحرب على استعادة النظام واحتواء العنف الطائفي واتساع التمرد، وقد برر رامسفيلد ذلك الفشل في مذكراته قائلاً: "إن كثرة القوات تضر بقدرتنا على كسب ثقة العراقيين، ويمكن أن يترجم ذلك إلى المزيد من الضحايا، لأن المزيد من القوات، يعني المزيد من الأهداف لأعدائنا".
لم تتوقف خطايا رامسفيلد عند ما فعله بالعراق، ولكن الخطايا كانت تجد طرقاً لملاحقته أيضاً داخل الوطن، لقد كان رامسفيلد يغطي على فشله في العراق وآلاف الجنود القتلى من الجيش الأمريكي بحجب المعلومات عن الأهالي، فلم تكن هناك صور أو أفلام تصور التوابيت القادمة، وقد استطاعت تلك السياسة أن تبقي عدد القتلى ثابتاً في نظر الأمريكيين، وهذا ما أدى دوره في جعل حرب العراق حرباً بعيدة في نظر الأمريكيين.
وبعد ثلاث سنوات من الحرب، كان رامسفيلد قد قاد العراق إلى الهاوية بالفعل، مع تزايد الاضطرابات في الرأي العام العالمي تجاه أمريكا بسبب ما يتم تسريبه مما يحدث في سجون أبوغريب وغوانتانامو، ودفع العنف الطائفي للعراق إلى شفا حرب أهلية كان يبلغ ضحاياها ما يقارب 6000 قتيل في الشهر، أصبحت العراق تصور أنها مستنقع فيتنامي جديد للجيش الأمريكي.
اتهم رامسفيلد من قادة أركان جيشه في النهاية بعد الفشل الكارثي في العراق بالغطرسة، وقد أطاح به الرئيس جورج بوش، ووُجهت إليه اتهامات عدة أخرى تتعلق بإخفائه الكثير من الحقائق عن الجرائم التي حدثت في العراق، ولكن مع ذلك لم يدخل رامسفيلد السجن، وحينما مات نعاه بأرق الكلمات الرئيس الذي أطاح به، وإن مات رامسفيلد، فإن إرثه لا يزال حياً ولا أحد يعلم إلى متى سيظل حياً في العراق وأفغانستان.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.