جملة "في أوروبا والدول المتقدمة" جاءت في سياق فيلم الإرهاب والكباب للكاتب المبدع وحيد حامد وإخراج شريف عرفة، والذي مثل فيه دور البطولة الفنان الكبير عادل إمام. وفي لقطة هي الأشهر بعد أن أخذ عادل إمام رواد مجمع التحرير (مبنى حكومي يضم عدداً من ممثلي الوزارات) رهائن، بدأ التفاوض مع الخاطفين بمعرفة الشرطة، فسأل الخاطف (عادل إمام) الرهائن ماذا تطلبون فقالوا: "نفسنا ناكل كباب"، فرد أحدهم: "في أوروبا والدول المتقدمة يقدمون الطحينة مع الكباب"، فصار مصطلح أو جملة "في أوروبا والدول المتقدمة" تطلق على ما يتمناه البسطاء، ويتخيلون أنه لا يحدث إلا في البلاد المتقدمة التي تحترم الإنسان وتحرص على أدميته، فتوفر له سبل الراحة وتسعى إلى رضاه، وذلك بالطبع لأن هذه الحكومات تعرف أنها مراقبة من قبل الشعب، وتعرف أيضاً أنه لا يستطيع فقط أن يحاسبها، بل يستطيع أيضاً أن يعاقبها من خلال صندوق الانتخابات.
بوريس جونسون في دائرة المحاسبة
جرّ رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون حكومته إلى دائرة الشك، وأعطى المعارضة فرصةً للمطالبة بفتح تحقيق كامل وشامل حول طريقة إنفاق حكومة رئيس الوزراء المحافظ أموال دافعي الضرائب البريطانيين، على خلفية اتهامات بالمحسوبية في منح عقود وتمويل محتمل غير قانوني لتجديد شقته، حتى إن المساعد السابق لجونسون دومينيك كامينغز دخل على الخط وشكك في نزاهة رئيس الوزراء في العديد من القضايا، فبريطانيا عنده أهم من صداقته لجونسون.
وترجع القصة إلى أن جونسون، بحسب المعارضة، حاول الحصول على مِنح من القطاع الخاص لإجراء بعض التجديدات في الشقة التي يعيش فيها مع خطيبته وابنهما في داونينغ ستريت. ورغم أن جونسون رد على الاتهامات خطياً بأنه دفع التكاليف من أمواله الخاصة، فإن نواباً في حزب العمال لم يقتنعوا بالرد، وطالبوا بإجراء تحقيق مستقل شفاف، وطالبوا بطرح هذه القضية العاجلة الأسبوع المقبل في البرلمان، ولا تزال القضية معلقة، وفي إطار النقاش العام في الدوائر السياسية والشعبية في بريطانيا.
قد يحاسب جونسون ولن يحاسب الكاظمي
في الليلة نفسها التي ثار فيها اللغط حول محاولة جونسون تجديد شقته من خلال مِنح من القطاع الخاص، ما يعني أن شبهة فساد محتملة قد تلوث سمعة رئيس الوزراء البريطاني، كان عشرات العراقيين في الجهة الجنوبية الشرقية من بغداد عند منطقة التقاء نهر دجلة بنهر ديالى، تلتهم جلودهم النار بعد أن اندلع حريق في مستشفى "ابن الخطيب". الضحايا من مرضى كورونا أنهكهم الفيروس، وأصبحت حركتهم ثقيلة بثقل المرض الجاثم على صدورهم، لكن الإهمال كان أثقل، فلا أنظمة لإطفاء الحريق ولا إطفائية تتحرك في التوقيت المناسب لتقليل الخسائر.
لكن الأصل في الأزمة عدم الالتزام بإجراءات الأمن والسلامة بتخزين أسطوانات الأوكسجين، حيث تقول الرواية الحكومية إن الحريق اندلع جراء انفجار حدث في إحدى أسطوانات الأوكسجين. وزاد من هول الحادث وجود أسقف مستعارة من مواد بلاستيكية ساعدت في سرعة انتشار الحريق، فلا التخزين اتخذت له أسبابه العلمية المعمول بها في بروتوكولات السلامة العالمية للمؤسسات الصحية والمستشفيات، ولا البناء والخامات المستخدمة فيه راعت تلك البروتوكولات. فلا فرق بين المستشفى في مواصفات البناء وبين مقهى يرتاده الناس لدقائق يحتسون الشاي ثم ينصرفون.
تقول التقارير إن معظم الضحايا لقوا حتفهم لأنهم نقلوا أو حُرموا من أجهزة التنفس الاصطناعي، بينما اختنق آخرون بالدخان، ما يعني أن خطة للطوارئ لم تكن موجودة بالأساس ليتدرب عليها العاملون حين وقوع الحادث. وعلى الفور سارع الكاظمي، رئيس الوزراء في العراق، إلى إيقاف وزير الصحة وعدد من المسؤولين منهم محافظ بغداد، في خطوة استباقية لإبعاد الاتهامات عنه والإفلات من المساءلة.
هروب الكاظمي إلى الأمام لن يُفلته من المسؤولية، وإن استطاع الهروب من القانون في دولة "اللاقانون" التي أسسها الاحتلال الأمريكي في 2003، وشيد بنيانها التواجد الإيراني بأحزابه وميليشياته المهيمنة على مفاصل الدولة في العراق، ومنها بالطبع البرلمان الذي لديه سلطة المراقبة والقضاء الذي له سلطة التحقيق والإدانة، إلا أن الكاظمي وإن أفلت محتمياً بأدواته فلن يفلت من العقاب الشعبي الذي يتنامى غضبه وينتظر لحظة الخلاص.
ابن الخطيب "ضبط" بالجرم المشهود
مستشفى "ابن الخطيب" ضبط بما حدث فيه من إهمال جسيم أودى بحياة ما يقارب المئة مواطن عراقي، لم تحرق جثثهم في المستشفى وحسب، بل حرقت معهم قلوب مئات الأسر من ذوي الضحايا ومحبيهم، وكل من لديه بقايا إنسانية في دولة كانت لها جذور تضرب في عمق التاريخ، لكنها تحولت إلى غابة وحديقة خلفية لتصفية الصراعات.
لقد ضبط المستشفى بالجرم المشهود على فساد متراكم ومركب، تصعد فيه درجات كدرجات السلم حتى تنتهي إلى رؤساء الحكومات المتعاقبين منذ الاحتلال وحتى اليوم، فقطاع الصحة في العراق يشهد انهياراً يوماً بعد يوم حتى بات العلاج من رفاهية العيش في العراق، وهو من مقومات بقاء الحكومات والأنظمة.
في العلوم السياسية تستمد الحكومات شرعيتها من توفير الأمن والغذاء والدواء لمواطنيها، فإذا ما اختل أحد أضلع هذه المنظومة زالت شرعية النظام وبات من الواجب إسقاطه. وفي العراق لا تجد من ذلك المثلث إلا القليل ولِلقليل، فلا أمن إلا للخضراء ولا غذاء إلا للأغنياء ولا دواء إلا للوزراء، أما بقية الشعب فهو يلهث وراء سبل العيش، ما دفع أغلبه للهجرة بحثاً عن مقومات حياة كريمة تشمله وذويه.
هل يكفي أن يوقف الكاظمي وزير الصحة وبعض المسؤولين؟
الإجابة بالطبع نعم. لعلك تفاجأت بالإجابة، وتنتظر إجابة ثورية من قبل، بل عليه إقالته وإحالته للمحاكمة هو وكل من تسبب في قتل ما يقارب المئة ضحية عجزوا حتى عن الهرب، لكن الذي لا تعرفه في العراق أن المحاصصة تمنع الكاظمي من فعل ذلك. والإجراء بالنسبة له موقف للتهدئة الجماهيرية، ثم تكون جلسة يتم الاتفاق فيها على ما يمكن فعله من دون إغضاب من يمثل الوزير من تيار أو جماعة أو ميليشيا.
لكن محاسبة أحد غير واردة، اللهم إلا عامل البوفيه في المستشفى فيما لو لم يكن منتمياً لحزب أو تيار أو لا تحميه ميليشيا. والكاظمي لا يفعل ذلك فقط من أجل المحاصصة، ولكن من أجل نفسه أيضاً، فالقوانين في العالم تحمل مسؤولية أفعال التابع للمتبوع والمرؤوس للرئيس، حيث إن الأخير عليه التخطيط ومتابعة التنفيذ ثم المراقبة. ولأن كل ذلك في عراق ما بعد 2003 لا قيمة له، حيث لا محاسبة ولا مساءلة، فإن العراقيين سيظلون يموتون بالإهمال والفساد من دون بواكٍ، حتى يصرخ الثوار صرختهم الأخيرة في وجه الأحزاب والميليشيات والمحاصصة والدستور، ليبنوا عراقاً يستحقونه، يُصان فيه العرض ويحترم الإنسان.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.