منذ مايو/أيار 2018 وتشهد علاقات إيران بالولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة توتراً كبيراً، في الشهور القليلة الماضية جرى تصعيد إسرائيلي كبير في مواجهة إيران، حيث أقدمت إسرائيل على توسيع علاقتها ببعض دول الخليج، على رأسها الإمارات والبحرين والسعودية، وتحويلها لعلاقات استراتيجية، وفي 27 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أعلنت إيران مقتل فخري زادة (63 عاماً)، إثر استهداف سيارته التي كانت تُقله قرب العاصمة طهران، واتهمت إسرائيل بشكل مباشر بالوقوف خلف الحادث، واستمرت التوترات وعمليات الاستهداف المتبادل للسفن بين الدولتين في مناطق عدة حول العالم عبر العامين الماضيين.
في إطار مساعيها للحفاظ على الاتفاق النووي أو التوصل لاتفاق جديد يحافظ على جوهر الاتفاق السابق، عبر مفاوضات فيينا، أعلنت إيران في 13 أبريل/نيسان الجاري أنها ستبدأ تخصيب اليورانيوم بنسبة نقاء 60%، وهو مستوى يقربها من القدرة على استخدامه عسكرياً، رداً على عمل "تخريبي" استهدف منشأة نطنز النووية وحمّلت طهران مسؤوليته لإسرائيل.
الإمارات وجلب النار الإسرائيلية بجوار الزيت الإيراني
شجّعت سياسات ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد وولي العهد السعودي محمد بن سلمان الإدارة الأمريكية السابقة على اتخاذ أقصى موقف متشدد من الملف النووي الإيراني، وهو ما تلاقى مع وعود انتخابية أطلقها ترامب للانسحاب من الاتفاق النووي الذي كانت قد توصلت إليه إدارة أوباما بشق الأنفس بعد مفاوضات مضنية مع إيران، تلاقت هذه التطورات مع ضغوط إسرائيلية قوية لدفع الولايات المتحدة لتبني موقف أكثر تشدداً في هذا الملف، وفي 8 مايو/أيار 2018 انسحبت إدارة ترامب من الاتفاق بشكل رسمي، وعادت لفرض عقوبات على إيران، وهو ما قاد لتوتر أكبر في علاقات إيران بالولايات المتحدة والشركاء الأوروبيين ودول المنطقة العربية.
بقيادة إماراتية انطلق قطار التطبيع مع إسرائيل، بعد جمود طويل في مفاوضات السلام العربية الإسرائيلية، إذ روّجت لتحالف إبراهيمي قرئ بطبيعة الحال -وفق تحليلات– باعتباره تحالفاً استراتيجياً سواء في مواجهة إيران أو تركيا، كما قرئت التحالفات السابقة في اليمن باعتبارها تحالفات عسكرية مباشرة في مواجهة إيران.
مثل الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي مع إيران ضوءاً أخضر لإسرائيل وحلفائها الجدد في المنطقة لاتباع سياسة حافة الهاوية، فانطلق قطار التطبيع مع عدة دول بقيادة إماراتية كان على رأس أولوياتها إبرام اتفاقات تجارية وعسكرية غير مسبوقة بين الإمارات والبحرين مع إسرائيل في 15 سبتمبر/أيلول 2020، وتسهيلات إماراتية لتطبيع بين السودان وإسرائيل، عبر ترتيب لقاء رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو برئيس المجلس السيادي في السودان عبدالفتاح البرهان، في فبراير/شباط 2020، من أجل العمل على تطبيع العلاقات بينهما وإسرائيل والمغرب، مقابل التغاضي الأمريكي عن قضية الصحراء ضمن صفقة القرن، أو اللقاءات المفتوحة على هامش المؤتمرات بين مسؤولين سعوديين وإسرائيليين، وتغير مواقف المؤسسة الدينية السعودية التي بدأت في التعبير عن نفسها بشكل إيجابي عن إسرائيل، وزيارة المدوِّنين والصحفيين السعوديين إلى إسرائيل، وإقامة علاقات تجارية مع الشركات الإسرائيلية ورجال الأعمال الإسرائيليين، وسماح المملكة للطائرات التجارية في طريقها من وإلى إسرائيل بالتحليق في مجالها الجوي.
منذ انتهاء ولاية ترامب وصعود الرئيس الأمريكي الجديد جون بايدن إلى سدة الحكم مع وعود بالعودة للاتفاق النووي مع إيران إذا عادت لالتزاماتها السابقة، بالرغم من موافقة بايدن على منح الإمارات طائرات إف 35 التي كانت محظورة على دول المنطقة باستثناء إسرائيل، فإن العلاقات الإماراتية الإسرائيلية أصبحت تتطور في مسار مستقل أيضاً عن واشنطن، سواء في مواجهة إيران أو القوى الأخرى في المنطقة، بل وتمثل عائقاً وضغطاً قوياً على إدارة بايدن في محاولتها العودة للاتفاق النووي أو إجراء مفاوضات مباشرة بين إيران وبعض دول المنطقة، من ذلك استباق مفاوضات جنيف باستهداف إسرائيلي لمنشأة نطنز النووية الإيرانية في 11 أبريل/نيسان.
حرب السفن وتبعاتها
منذ مارس/آذار الماضي تتبادل إيران وإسرائيل اتهامات باستهداف سفن تجارية، ففي الخامس عشر من الشهر تعرّضت سفينة الشحن "إيران شهركرد" لـ"هجوم تخريبي" في البحر الأبيض المتوسط، وفي الثامن من أبريل/نيسان، أعلنت إيران أن سفينة تجارية إيرانية بالبحر الأحمر قرب سواحل جيبوتي، تضررت جراء انفجار استهدفها في البحر الأحمر، وسط تقارير صحفية عن ضلوع إسرائيل في العملية ضمن "رد" على استهدافات سابقة لسفن مرتبطة بتل أبيب، تضمنت الاستهدافات الإسرائيلية ضرب أكثر من 12 سفينة إيرانية منذ العام 2019.
ردت إيران بشكل مباشر على استهداف سفنها بضرب أهداف إسرائيلية في المنطقة، كان أحدثها استهداف لسفينة الإسرائيلية قبالة سواحل الإمارات في 13 أبريل/نيسان، بالتوازي مع الإعلان عن رفع التخصيب، وسبقتها عدة حوادث لاستهداف سفن إسرائيلية في بحر العرب وخليج عمان.
يعاني الاقتصاد الإيراني بشكل كبير منذ ما قبل تداعيات أزمة كورونا بسبب العقوبات الاقتصادية المفروضة عليه، ومع تفشي جائحة كورونا وتحول إيران إلى بؤرة إقليمية وعالمية وإغلاق معظم دول جوارها حدودها البرية معها، فضلاً عن حظر السفر منها وإليها من قبل معظم دول العالم، بفعل الإغلاق العام وتوقف الحركة التجارية في المنافذ الحدودية، وارتفاع مؤشرات البطالة والتضخم وعجز الميزانية، فإن التقارير المستندة إلى بيانات مركز الإحصاء الإيراني في أحدث تقرير له تشير إلى أن نسبة المشاركة الاقتصادية تراجعت 7% خلال عام 2020، ما يعني خروج أكثر من مليون و500 ألف ناشط اقتصادي من سوق العمل، وهو العدد الأكبر في نوعه خلال السنوات الخمس الماضية، وارتفاع التضخم السنوي إلى نحو 42% في ضوء جائحة كورونا، في حين بلغ مؤشر التضخم في شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي 46%، وفق الإحصاءات الرسمية، وانعكس ارتفاع مؤشر التضخم في إيران على زيادة قيمة العملة الصعبة بنسبة 50% خلال عام 2020، وفقدان العملة الإيرانية نصف قيمتها خلال العام الماضي. كما تشير تقديرات الرئيس الإيراني حسن روحاني، في سبتمبر/أيلول 2020، أن إجمالي الخسائر الناجمة عن العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة منذ عام 2018 بلغ 150 مليار دولار.
لا ينقص اقتصاد كهذا حربا تجارية أو استهداف للسفن التجارية، وإن كانت هذه الحرب تهدف لتغيير النظام في إيران والذي كان يواجه احتجاجات قوية عشية الجائحة بسبب الظروف الاقتصادية، لكن في ظل هذه التصعيدات قد يكون اللجوء لتطوير الأسلحة النووية مخرجاً للنظام في مواجهة التحالفات الإقليمية ضده، باعتباره مشروعاً قومياً يمكن أن يعيد تجميع الإيرانيين حول النظام الحالي، خاصة أن النظام الإيراني يحاول التملص من تلك العقوبات والالتفاف عليها، عبر تهريب النفط لدول جواره أو الاعتماد على الاستثناءات الأوروبية، أو تعزيز علاقاته مع دول أمريكا اللاتينية، التي لطالما اعتبرت الفناء الخلفي للولايات المتحدة الأمريكية، وليس آخرها إرسال ناقلات نفط عملاقة إلى فنزويلا ضمن اتفاق ضخم لتعويض تعطل إنتاجها بسبب عقوبات أمريكية عليها.
رفع التخصيب أية سيناريوهات؟
برغم أن الحادث الأخير المرتبط باستهداف سيبراني خطير لمنشأة "نطنز" الموقع الوحيد الذي سمح لإيران بالتخصيب فيه محلياً وفقاً للاتفاق النووي، ليس الأول من نوعه، لكن خطورته تأتي وفق تقارير من كونه جاء مباشرة بعد كشف إيران عن 133 إنجازاً نووياً، من بينها إنتاج وتشغيل مجموعة أجهزة الطرد المركزي المتطورة من الجيل السادس المكونة من 164 جهازاً في "نطنز"، بالإضافة إلى تشغيل مجموعة ثلاثينية من الجيل الخامس في المنشأة نفسها.
وبرغم التحليلات التي تشير إلى محدودية خيارات إيران تجاه التصعيدات الإسرائيلية والأمريكية المتكررة، تتشابه الظروف الحالية لإيران إلى حد كبير مع تلك الظروف التي قادت إلى أن تصبح باكستان قوة نووية رغم أزماتها الاقتصادية البنيوية، ففي عهد الجنرال محمد ضياء الحق ذي التوجهات الإسلامية، واجهت البلاد أزمات اقتصادية حادة بالتوازي مع التصعيد العسكري الهندي في إقليم كشمير، وفي الولايات الحدودية، وتزايدت الاستهدافات الهندية للعلماء النوويين الباكستانيين، فكان الحل الوحيد لإحداث الردع هو تسريع وتيرة العمل على إنتاج هذه القنبلة النووية، رغم ذلك الوضع الاقتصادي المتردي، بل إن إنتاج مثل هذه الأسلحة قاد إلى تحسن مؤقت في مؤشرات الاقتصاد الباكستاني، رغم أنه قاد في النهاية لاغتيال ضياء الحق نفسه بتنسيق استخباراتي إسرائيلي هندي.
كما أن إيران تبذل جهوداً قوية للتخلص من تأثير العقوبات عليها، في إطار مقاومتها لتأثير الضغوط الأمريكية عليها، وتعزيز موقفها في مواجهة القوى الإقليمية أقدمت على عدة خطوات، ففي 27 مارس/آذار، وقّعت الصين وإيران اتفاقية كبرى للتعاون، قال وزيرا خارجية البلدين إنها شراكة استراتيجية لمدة 25 عاماً على الأقل، يتوقع وفق تقارير أن تتحول إيران عبر هذه الاتفاقية إلى بوابة قوية لتعزيز نفوذ الصين في الشرق الأوسط، ورغم أنه لم تُنشر تفاصيل هذا الاتفاق بعد، فإن التكهنات تشير إلى أن الصين ستقوم بتحدي العقوبات الأمريكية بشراء النفط الإيراني، وفي المقابل تسمح إيران للصين بالاستثمار في البلاد، خاصة أن العقوبات حالت دون وجود أية استثمارات أجنبية.
ويعد هذا الاتفاق امتداداً جديداً للمشروع الصيني الخاص بمبادرة الحزام والطريق، التي تشمل بناء طرق تربط الصين ببقية أنحاء العالم، ما يُمكنها من توسيع نفوذها كقوة عالمية.
ورغم أن الإدارة الإيرانية الحالية تسعى بشكل حثيث لدفع الولايات المتحدة وحلفائها إلى العودة للاتفاق النووي قبل الانتخابات الرئاسية المزمع انعقادها في يونيو/حزيران، فإن مساعي إسرائيل وحلفائها في المنطقة لإفشال أية محاولات للوصول لاتفاق جديد أو العودة للاتفاق السابق قد تدفع باتجاه عودة التيار المحافظ في إيران، نتيجة تلك السياسات المتشددة التي أفضت إلى فشل مسار الإصلاحيين في الحصول على اتفاق عادل يُسهم في تقويض العزلة المفروضة على إيران، وفي هذا الإطار فإن عودة هؤلاء المحافظين ستقود بقوة لتعزيز التوجه نحو رفع معدلات التخصيب، وتطهير واسع للأجهزة الاستخباراتية والأمنية، بما يضمن تجاوز تلك الاختراقات الإسرائيلية الكبيرة، وإنتاج الأسلحة النووية التي ستصبح الضمانة الوحيدة لعدم قيام إسرائيل بأية حرب شاملة ضد إيران أو تهديد مصالحها على نحو واسع، فلم تمنع الظروف الاقتصادية القاسية كلاً من باكستان وكوريا الشمالية ولا حتى الهند من امتلاك تلك الأسلحة النووية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.