إن التطور الذي شهده مطلع القرن الحادي والعشرين، وما نجم عنه من تحول جذري في أساليب التواصل وتقنيات المعرفة، ألقى بظلاله على ميدان التعليم، فبرزت طرائق ومقاربات جديدة في التدريس، تتماشى طردياً مع تطور المجتمعات الإنسانية الذي أخذ منحىً معرفياً ورقمياً، وهذا الوضع المستجد يفرض على وزارات التعليم إيجاد استراتيجيات جديدة للتكيف مع عصر الرقمنة، والسعي إلى تحديث المناخ التعليمي، والتخلي تدريجياً عن المقاربات التعليمية الكلاسيكية، من خلال إحلال مقاربات أكثر فاعلية في العملية التعليمية، كإدماج التكنولوجيات الرقمية وطرائق التدريس الإلكتروني والتفاعلي، وإعادة هندسة أقسام التدريس لتكون أكثر كفاءة ووظيفية، وتدريب الأساتذة على الكفاءات التعليمية الحديثة.
ويمكننا القول إن من بين أهم أسباب عدم فاعلية النظام التعليمي بالجزائر هو التأخر الكبير في مواكبة أحدث التقنيات في تكنولوجيا التعليم وطرائق التدريس (الفجوة المعرفية بين المؤسسة التعليمية وبيئتها الاجتماعية)، ففي الوقت الذي ظهرت فيه اللوحة الذكية والآيباد والتدفقات السريعة للإنترنت وسهولة تداولها عبر الهواتف الذكية، وظهور النظريات الجديدة للتعليم التي تتناسب طردياً مع تطور ذهنيات المجتمعات الحديثة، نلاحظ أن مؤسساتنا التعليمية ما زالت غارقة في أنماط القرن الماضي، ومتشبثة بالطرق التقليدية في التدريس والتسيير، مع غيابٍ شبه كلّي لبرامج التدريب الوظيفي والتعليم التنظيمي للمدرسين، الذي يرفع من كفاءاتهم المهنية وأدائهم التعليمي، وهذا ما جعل مؤسستنا التعليمية غير مؤثرة في محيطها الاجتماعي والثقافي، وضعيفة الجدوى من حيث الأداء والنتائج، ما أدى إلى تغوّل التعليم غير الرسمي الذي أضحى المنافس الأول للتعليم الحكومي.
إن ما ينتاب النظام التعليمي بالجزائر من معضلات بيداغوجية، سواء في الطور القاعدي أو الجامعي، هو حصيلةُ إخفاقات متراكمة للسياسات التعليمية، فالبحث في معضلات التعليم ببلادنا يجب أن يتوجه في الأساس إلى تقييم السياسات التعليمية وإفرازاتها على شتى المستويات، ومن أبرز المآزق التي تُجسد مخرجات هذه السياسات نذكر:
1- اكتظاظ الأقسام وضعف مستوى الإشراف.
2- سوء الأداء التربوي والتعليمي.
3- قلة الوسائل والإمكانات المساعِدة على التدريس.
4- ظروف عمل غير وظيفية وغير مهنية.
5- انتشار الانحراف الأخلاقي في الوسط التعليمي (فصل التعليم عن الأخلاق).
6- تردِّي المكانة الاجتماعية والوظيفية للأستاذ.
7- الأدلجة والإصلاحات الارتجالية والمتكررة للمناهج وبيداغوجيات التعليم.
8- تغوُّل الدروس الخصوصية، وتراجع دور المدرسة العمومية.
9- كثرة عقود الاستخلاف وغياب التكوين والكفاءة.
10- سوء التسيير الإداري.
11- انتشار الغش في الوسط التعليمي، سواء في الامتحانات أو مسابقات التوظيف وحتى الترقية!
12- مسابقات التوظيف لا تخضع لمعايير تفاضُلية في انتقاء المترشحين؛ ما أدى إلى تسرُّب الكثير ممن ليس أهلاً للتدريس أصلاً!
13- عدم احترام التخصص (فنجد أستاذ الابتدائي مثلاً يُدرس عدة مواد ليست من اختصاصه، أو أستاذ الفلسفة والأدب يدرسان مادة الشريعة، ومدرس الرياضيات يدرس العلوم الطبيعية، والناظر يُكلف بمهام المدير، والمراقب يُكلف بمهام المراقب العام… إلخ).
إن هذه التراكمات السلبية هي في الحقيقة انعكاس واضح لإفلاس السياسات المُتخذَة لإصلاح التعليم بالجزائر عبر الحكومات المتعاقبة، والتي رغم ما رُصد لها من ميزانيات باهظة فإنها تتميز بقلة الفاعلية وضعف المردود، ولعل ذلك راجع إلى مجموعة السمات التي ميزت هذه السياسات، وقد يجمعها التوصيف التالي: "السطحية في التغيير، الارتجالية في التنفيذ، السطحية في المعالجة، العمومية في التوصيف، التقليد والمحاكاة في النماذج وغياب التخطيط". ونفصّل ذلك فيما يلي:
أولاً: إن جُلَّ سياسات الإصلاح التعليمي ببلدنا تُركز على الكمّ دون الكيف، فتُفاخر بعدد الدارسين والهياكل والمؤسسات دون قياس نوعية التعليم ونسبة المخرجات بناء على نسبة المدخلات، وما هي القيمة المضافة التي يقدمها التعليم في التنمية الشاملة.
ثانياً: التجاذب الأيديولوجي وإقحام الصراع الهوياتي في عملية مراجعة وإصلاح المناهج والكتب التعليمية، وهذا راجع إلى حالة الاستقطاب الحاد بالجزائر بين فريقين متغالبين، هما: المدرسة الباديسية المحافظة، والمدرسة الفرونكوفيلية ذات التوجه الفرنسي والمتنفذة في دواليب السلطة، وهذا ما أدى إلى عدم الفصل النهائي والبَاتّ في مسألة الثوابت بالمناهج التعليمية بصفة عملية. (كمثال على ذلك: حجم تدريس مادة اللغة الفرنسية في جميع الأطوار أكثر من تدريس مادة العلوم الإسلامية).
ثالثاً: السمة الأبرز للإصلاحات التعليمية بالجزائر هي الاقتصار على استيراد الأنماط الجاهزة والمقاربات التعليمية للدول الغربية، التي تختلف رأساً عن بيئتنا السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والوظيفية والإدارية، واعتبارها النموذج الأمثل للإصلاح، وفي أحيان كثيرة تكون هذه النماذج مفروضة بصفة فوقية، ولم تأت وفق مسار تطوري طبيعي لحاجات المجتمع.
رابعاً: غياب الرؤية التكاملية والمنظور الاستراتيجي في سياسات الإصلاح التعليمي، فهي تركز في غالبها على تعديل المناهج والبيداغوجيات وبصفة مثالية غير منسجمة مع خصائص البيئة التعليمية بالجزائر، مع إهمالٍ شبه كلي لمسائل تنمية الموارد البشرية والكفاءات التعليمية للأستاذ والارتقاء بالمناخ الوظيفي والبيئة التنظيمية العامة للمؤسسات التعليمية.
خامساً: ونتج عن السمة السابقة عدم فاعلية المؤسسات التعليمية وأقسام التدريس، في ظل كثرة المتغيرات ومستحدثات العصر التكنولوجي، فإلى اليوم لا تزال أنماط وحجرات ووسائل التدريس تعود إلى أزمنة غابرة، ولم تتكيف بعدُ مع الواقع الجديد، الذي أصبح متفوقاً بوسائله الاتصالية وقدراته الرقمية والتعليمية على قدرة المؤسسات التعليمية على التأثير في المجتمع وأفكار وسلوك المتعلمين، وهو ما أسهم في اتساع الفجوة الرقمية والمعرفية بين المؤسسة التعليمية ومحيطها الاجتماعي.
سادساً: التركيز على الحشو المعرفي والتراكم المعلوماتي بدل بناء أنظمة التفكير الناقد لدى المتعلم وتطوير مهاراته الإدراكية بطريقة تُنمّي فيه ملكة الإبداع والقدرة على حل المشكلات وتوظيف المعارف بدل تجميعها لأجل اجتياز الامتحانات الدورية ثم إهمالها.
سابعاً: تهميش دور الأستاذ في العملية التعليمية، واعتباره منفذاً للسياسات لا شريكاً في صناعتها وتطويرها.
ثامناً: فصل الأداء التعليمي عن المناخ التنظيمي والوظيفي للأستاذ، فوزارة التعليم تريد تحقيق نسبٍ تعليمية عالية، وأداءٍ تعليمي متماشٍ مع معايير الجودة، في ظل بيئة وظيفية طاردة وقاتلة للإبداع والتحفيز على الأداء الجيد، في حين أن نظريات إدارة الموارد البشرية تؤكد على وجود تلازُم وثيق بين نوعية الأداء التعليمي والوظيفي وخصائص المناخ المهني والوظيفي.
إن السمات السابقة أسهمت في تعميق المشكلات التعليمية واتساعها، وعدم فاعلية النظام التعليمي، وهو ما يدفعنا للتساؤل: لماذا لا ينتبه صانع القرار إلى هذه المشكلات ويَحدُّ من استشرائها -في أقل الأحوال- إن عجز عن حلها؟
وهذا التساؤل يقودنا إلى القول إن هناك عملية ممنهجة لإغراق قطاع التعليم في أتون الرداءة والفساد، فالتوجه العام للسياسات في معظم الدول العربية يزدري مكانة التعليم والأستاذ معاً، فهذه الدول في غالبها لا تعتبر التعليم مورداً استثمارياً حيوياً ومحوراً للبناء التنموي، إلا ما كان منها على مستوى البيانات أو التصريحات، في ظل غياب أدنى استراتيجية لمعالجة اختلالاته، فضلاً عن تطوير كفاءة النظام التعليمي، وهذا ما يُفسر لنا كثرة الاضطرابات والإضرابات في هذا القطاع أكثر من غيره، وكان من نتائج ذلك:
- التهوين من منزلة العلم "كقيمة مطلقة" في نفوس الشعوب والأجيال، وتحطيم القدوة الصالحة والناصحة للمجتمع.
- إغراق المؤسسات التعليمية في مشكلات متراكمة ومتشابكة، حتى تنشغل عن دورها المركزي في صناعة الفكر وإنتاج المعرفة.
- تحطيم "منزلة الأستاذ" كقائد اجتماعي وقدوة في العلم والأخلاق وصانع للأجيال وقاطرة للمجتمع في مسيرة البناء والإصلاح.
- هروب الكفاءات الوطنية للخارج، سواء أكانوا طلبة أو أساتذة أو مخترعين أو أطباء أو مهندسين، بسبب الاختناق بمناخ الرداءة القاتل، وخلو الساحة للفشلة، أو لمن لم يجد حيلة للرحيل فيطوي قلبه على جمر الأسى والحسرة والضياع.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.