المتتبع لمجريات حراك الشعب الجزائري في نسخته الثانية الذي عاد في الثاني والعشرين من فبراير/شباط الماضي، يلاحظ تبايناً في مواقف الجزائريين من عودة المسيرات في هذه الظروف الصحية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية التي خلفها تفشي الوباء وتوقف الكثير من مظاهر الحياة، حيث يعتبره البعض سابقاً لأوانه، يعرض المواطنين إلى خطر العدوى بالفيروس، ويستجيب لنداءات متطرفين يستغلون الظروف الصعبة لدفع الحراك نحو التطرف ومن ثم المواجهة مع السلطات، بينما يعتبره البعض الآخر السبيل الوحيد لممارسة الضغط على سلطة ترفض الرحيل، أو على الأقل تقاوم التغيير الذي ينشده الجزائريون، ويعتبرونه ضرورياً لأن أسباب خروج الشعب الجزائري في حراكه لا تزال قائمة ولم يتغير أي شيء على مدى سنة كاملة منذ توقف حراك المسيرات بإرادة الشعب مع بداية تفشي وباء كورونا شهر مارس من السنة الماضية.
الجزائريون عادوا إلى حراك المسيرات الشهر الماضي بمناسبة الاحتفال بالذكرى الثانية لانطلاقته استجابة لدعوات الكثير من الذين تحدوا وباء كورونا والإجراءات الوقائية المفروضة، رغم أن معارضة وتردد البعض الآخر ليس تراجعاً عن الحراك، ولكن خوف عليه وحفاظ على حضاريته وسلميته ووطنيته وشعبيته من مظاهر التطرف والتحريض التي برزت في شعارات أيديولوجية وجهوية، وأخرى فيها الكثير من السب والتخوين، ورفض للرأي الآخر الذي يدعو الى الاحتكام للعقل وتنظيم الحراك وتأطيره ليشكل قوة بديلة، خاصة أن حراك 2019 خرج لأجل ضمان حرية التفكير والتعبير للجزائريين، واحترام الإرادة الشعبية التي لا تختلف حول مبدأ ضرورة التغيير الديموقراطي السلمي، وليس استبدال سلطة مطلقة فاشلة بمتسلطين جدد يزدادون تطرفاً وعناداً، يختزلون المعارضة في مجرد صراخ وسب وشتم في وسائل التواصل الاجتماعي.
في ظل الانسداد الحاصل بين حراك يتصاعد دون أن يطرح أي بديل، وسلطة ماضية في تنفيذ أجندتها، تدير ظهرها لمطالب الشعب في التغيير، ارتفعت أصوات أخرى تدعو النخبة لتحمل مسؤولياتها والعودة إلى منصاتها ومنابرها للقيام بواجبها في نشر الوعي والدفاع عن القيم وصناعة البديل، وبالتالي حماية الحراك والوطن من متطرفين يسعون للاستيلاء على حراك الشعب، وظهرت أصوات أخرى تطالب بتأطير الحراك وتنظيمه ليتحول إلى قوة سياسية تقوم بصياغة أرضية مطالب وخريطة طريق تفاوض بها السلطة بالموازاة مع استمرار المسيرات كوسيلة ضغط إلى غاية تحقيق الانتقال الديمقراطي بعيداً عن كل أشكال التطرف التي تسعى لتخويف النشطاء من النخبة الذين وجدوا أنفسهم بين مطرقة سلطة متسلطة تمارس التضييق، وسندان متسلطين جدد مدججين بذباب إلكتروني يمارس التخوين في حق كل من يدعو إلى تحكيم العقل وتأطير الحراك وتنظيمه.
النشطاء والشخصيات المؤثرة وجدت نفسها عاجزة عن القيام بدورها في ظل غلق وسائل الإعلام المحلية والتخوين الذي تتعرض له من طرف من يحسبون على الحراك من جهة، والتضييق الذي تتعرض له من طرف السلطة من جهة أخرى، ما أدى إلى إفراغ الساحة من نخبتها، بعدما تحالفت ضدها قوى الشر، بينما وجد الشعب نفسه من جهة أخرى منقسماً بين حراك 2019 الشعبي الوطني السلمي الذي شكل ثورة وعي منعت العهدة الخامسة لبوتفليقة وكسرت جدار الخوف، وبين حراك 2021 الذي يرفض التمثيل والتأطير والتنظيم، وحتى التحاور مع السلطة، ويتوجه نحو التطرف والوقوع رهينة صراعات ايديولوجية يحاول أصحابها التموقع والتأثير على الرأي العام، وعلى أولئك الذين يعانون متاعب اجتماعية زادتها تعقيداً تداعيات الوباء .
السلطة من جهتها تواصل تنفيذ أجندتها بعد قرارها بتنظيم انتخابات تشريعية شهر يونيو/حزيران القادم في ظل ظروف سياسية واجتماعية مشحونة مثل تلك التي جرت فيها الانتخابات الرئاسية التي لم تحل مشكلة الشرعية، بل زادت من تعقيد الأمور، كما أن التضييق على النشطاء والمتظاهرين والإعلاميين والشخصيات الوطنية زاد من الاحتقان والتطرف في الجهة المقابلة، وعمق من أزمة الثقة لدرجة الشك، وأوقعت الشعب في مأزق مواصلة حراك المسيرات من عدمه خوفاً من وقوعه بين أيادي عصابة جديدة أخطر من عصابة بوتفليقة تحارب الرأي الآخر وتخون من يختلف معها، وتحرض ذبابها ضده، وربما تأمر بقتله لإسكات صوته.
بين الحراك والحراك تزايدت مشاعر الشك بدل اليقين، ووجد الشعب نفسه أمام عناد وعناد مضاد، وسط صراخ وسب في وسائل التواصل الاجتماعي وآفاق مسدودة دون بديل أو مقترحات وأفكار، ولا حتى استعداد لمناقشة ورقة طريق تطرح على السلطة التي وجدت بدورها نفسها رهينة بين نظام متهالك فقد ثقة شعبه، ونظام يرفع شعار التغيير دون أن يقدر على تحقيقه وامتصاص الغضب الشعبي المتزايد الذي رفعت من حدته وقوته ظروف اجتماعية واقتصادية صعبة ومحيط جيوسياسي معاد يصعّب من حل معادلة تتعقد كل يوم ويزيد من مخاوف تكرار أحداث أكتوبر جديدة تؤدي إلى صدام بين الشعب والسلطة، وتنتهي بإجهاض ثورة بدأت سلمية نقية وطنية وشعبية، لم تسب حتى بوتفليقة ولم تهِنه، وقد تنتهي إلى المواجهة.
الكل في الجزائر يجمع على أن النظام فشل في بناء الدولة لأنه لم يستند يوماً على مشروع مجتمع توافقي، والكل يتخوف من فشل الحراك الشعبي في تحقيق التغيير المنشود إذا لم يتجسد في مشروع سياسي يحقق ثورة فكرية وعلمية وتكنولوجية وأخلاقية تقود إلى تحقيق الدولة المدنية فعلاً، التي يتحول فيها الحراك إلى سلوك وثقافة وتقاليد لا يجب أن يتوقف أبداً، بل يبقى يرافق ويراقب التحولات حتى لا تحيد عن مبادئ ثورة نوفمبر وقيم ثورة فبراير 2019 التي تسكن القلوب والعقول والنفوس السوية، وليس تلك المريضة التي تمارس الشعبوية والديماغوجية، وتريد الانتقام وتصفية حساباتها وتهديم أركان الدولة ومؤسسات الجمهورية لأنهم لا يفرقون بين الوطن والنظام.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.