الإبداع والابتكار هما القدرة على إعادة طرح أفكار قديمة بطرق جديدة تحمل طابع وهوية طارحها، ومن هنا يمكننا الاتفاق على استخدام ذلك التعريف كمدخل لهذا المقال، حيث من المفترض أن أتحدث عن الإبداع وشروط إنتاجه وظروف إنتاجه. وبما أن الإبداع دائماً مقترن بحرية التعبير عنه، سأحاول أن أتناول في هذا المقال مسألتي الإبداع وظروف إنتاجه وحرية الرأي، سأحاول أن أكتب ذلك بمنتهى الحرية.
"السجن مبيموتش بس الوحدة بتموت.. أنا محتاج دعمكم، في السنتين اللي فاتوا حاولت أقاوم كل اللي بيحصل لي لوحدي، عشان أخرج لكم نفس الشخص اللي تعرفوه، بس مبقتش قادر خلاص، مفهوم المقاومة في السجن أنك بتقاوم نفسك وبتحافظ علی إنسانيتك من الآثار السلبية من اللي بتشوفه وتعيشه كل يوم، وأبسطها أنك تتجنن أو تموت بالبطيء، لكونك مرمي في أوضة بقالك سنتين، ومنسي، ومش عارف هتخرج منهاإمتی أو ازاي؟ محتاج لدعمكم ومحتاجكم تفكروهم إني لسه محبوس، وإنهم ناسيني وإني بموت ببطء كل يوم، لمجرد إني عارف إني لوحدي قدام كل ده، وإني عارف إن ليا صحاب كتير بيحبوني، وخايفين يكتبوا عني أو فاكرين إني هخرج من غير دعمهم."
هذه كانت آخر رسائل المخرج والمصور "شادي حبش" المرسلة إلى العالم، من داخل سجنه في أكتوبر/تشرين الأول 2019، قبل أن يلقى حتفه في ذات السجن في مايو/أيار 2020. ولمن لا يعرفون "شادي حبش" فهو مخرج ومصور تم حبسه وهو في عمر الـ22 بتهمة الانضمام لجماعة إرهابية ونشر أخبار كاذبة وما إلی ذلك من تهم محفوظة يحبس على أساسها أي شخص في مصر لا يأتي على هوى ومزاج الأمن العام. وسجن شادي على إثر صدور أغنية "بلحة" للمغني رامي عصام في عام 2018، الجدير بالذكر أن هذه الأغنية تسببت في حبس الشاعر كاتب الأغنية "جلال البحيري" حتى يومنا هذا ومصادرة ديوانه، وحبس أي شخص قد شارك في هذه الأغنية!
بالعودة إلى حرية الرأي والتعبير، وهما من المحرمات في مصر، فالحياة هنا مختلفة بعض الشيء، إذ لا تضمن لأي شخص أي قدر من الحرية الشخصية أو العامة، ولو القدر الضئيل. الأعراف والتقاليد والعادات والسلطات أقامت تحالفاً رجعياً لإحكام قبضته على مجتمع يحتضر. ومؤسسة القانون والبيروقراطية المصرية لا يضمنان لأي شخص أي حق أو رد اعتبار أو أقل قدر من العدالة. فمن الممكن أن يتم خطف أي شخص وحبسه لأي مدة لمعارضته لذلك التحالف، وإذا كان هذا الشخص فناناً أو مبدعاً، فإنها ستكون القاضية له ولفنه.
عندما تقرر الديكتاتورية ماهية الفن
تحجب عتمة الديكتاتورية نور الفن دوماً، يلجمه الديكتاتور، ويعرقل طريقه، ويحظر انتشاره في بعض الأحيان، هذا ما تعلمناه من كتب التاريخ، تاريخ البشرية الطويل المليء بالقهر والظلم ومحاربة الفن والإبداع.
في عصر ألمانيا النازية قلل "هتلر"من شأن الفن، عندما قرر استخدامه وتوظيفه لخدمة مصالحه ومصالح حزبه فقط، دون الالتفات لأي إبداعات أخرى، فيما عُرف وقتها باسم "تطهير الفن".
في مقال تم نشره على "بريجيت غورتس" من كتابة فؤاد آل عواد ومن مراجعة حسين ع. حسين، يوضح سطوة الديكتاتورية على الفن، يقول فؤاد، "دائماً ما كانت الديكتاتوريات تحارب الفنون، ولكنها كانت توظف لصالحها كل ما يتناسب منها مع سياستها، مثال على ذلك الديكتاتورية النازية، عندما أعلن زعيمها أدولف هتلر المعركة على الفن الحديث عام 1937 وحدد ماهية الفن الألماني.
قبل ثلاثة وثمانين عاماً أعلن الديكتاتور النازي أدولف هتلر المعركة على الفن الحديث. في القاعة الكبرى في بيت الفن "كونست هاوس" في مدينة ميونخ وقف الفوهرر آنذاك مهدداً الفن بالتطهير، غير أنه حدد للفنانين منهجية الفن، وبالتالي أطلق على ما كان يرتئي هو أنه "الفن الصحيح" مصطلح "الفن الألماني"، آخذاً بعين الاعتبار مصلحته السياسية في حربه الاستقصائية ضد كل ما لا ينتمي إلى العرق الآري. في بيت الفن الألماني في ميونخ كانت لوحة تصور الزعيم النازي والصليب المعقوف تتصدر القاعة الكبرى. اليوم جاء الفنان السويسري كريستيان فيليب مولر وعرض تحديداً في المكان نفسه لوحة ظهر عليها جسد امرأة شابة عارضة للأزياء.
في عصور الظلام دائماً ما ينتشر البطش والقسوة وتسود القوة الغاشمة والأذرع الطويلة للسلطة، وينشط زوار الفجر الذين يلقون القبض على الناس في بيوتهم لقولهم نُكتة تسخر من سياسات الدولة أو من رئيسها الذي في الغالب يتم تنصيبه في البلاد المتخلفة على أنه إله منزه لا يجب المساس به أو التطاول عليه. والبعض في هذه العصور يقدم أي قربان للتقرب من السلطة، كمدحها ليل نهار على الشاشات وتعليق اللافتات والثناء على أي فعل تافه والدعاء للإله البشري الذي يحكم الناس الذين هم في نظر هذا الإله وهؤلاء الزبانية مجرد حثالة ورعاع!
حكاية معتز عبدالوهاب
لا يعاني من الاضمحلال والاندثار الفني الحر إلا عامة الناس، ولكن لا يتأثر بطريقة مباشرة وعنيفة إلا ذوو الوعي والفكر ومرهفو الحس، وهنا أقصد وأخص المبدعين، الذين يشار لهم دوماً بالمهرجين والمهرطقين عندما ينتقدون السلطة، والذين تقام لهم المحاكمات علانية ليكونوا عبرة لمن لا يعتبر، كان هذا الوضع في الماضي القريب. ولكن في عصرنا الجاري الوضع مختلف، إذ يوضع الناس في السجن ويختفون لأيام وشهور دون أي أخبار عنهم، كأنهم لم يولدوا من الأساس، وما إن يظهروا في طرقات النيابة العامة مصفدين بالأغلال، يتم وضعهم في القالب المُعد مسبقاً ألا وهو "الانضمام لجماعة إرهابية"، فزاعة النظام التي يلوح بها للجميع بكل قوة ويبطش بمقتضاها ويطغى، ويضع في قائمتها عاطلاً مع باطل مع فنان مع بلطجي. أي مصري يعيش في أرض الكنانة كان وما زال معرضاً لأن يكون ضحية تلك التهمة، ومن ضمنهم المنتج السينمائي "معتز عبدالوهاب"، معتز هو أحدث المنضمين لهذه القائمة من الوسط الفني، ولن يكون الأخير بالطبع، في ظل استمرار نهج القمع والبطش بأي شخص قد يقول أي شيء ضد النظام، أو يتراءى للسلطة أنه خائن!
في 11 مايو/أيار 2020 رصدت "الجبهة المصرية" قرار نيابة أمن الدولة حبس معتز بالله عبدالوهاب حسين (43 سنة- منتج سينمائي لأفلام مثل: لما بنتولد – قلب مدينة القاهرة- الطيب سيرة ذاتية للوطن- بصمات علي بدرخان- ومكان اسمه الوطن) مدة 15 يوماً على ذمة التحقيق معه في القضية 586 لسنة 2020 حصر أمن دولة، ووجهت النيابة له اتهامات بمشاركة جماعة إرهابية علی العلم بغرضها وإذاعة أخبار كاذبة، وذلك بعد إخفائه قسرياً لمدة 5 أيام، على خلفية اتهامه بالعمل مع قناة الجزيرة الوثائقية. وكان قد تم القبض على معتز من مقر شركته بمنطقة المعادي في القاهرة يوم 5 مايو/أيار، وتم إخفاؤه لمدة 5 أيام في مقر جهاز الأمن الوطني في منطقة العباسية، في غرفة ضيقة فيها ما لا يقل عن 20 محتجزاً، كما تعرض لعدد من الانتهاكات المادية والمعنوية. إلي أن ظهر في نيابة أمن الدولة العليا اليوم 11 مايو/أيار 2020 للتحقيق معه في القضية.
وفي 5 أكتوبر/تشرين الأول 2020 قررت محكمة جنايات القاهرة إخلاء سبيل معتز بتدابير احترازية، بالطبع قبل أن يتم إعادة تدويره وعدم إخلاء سبيله وبقائه في السجن حتى الآن.
تم القبض علی "معتز عبدالوهاب" لتعاونه مع الجزيرة الوثائقية لإنتاج أفلام عن مصر، في الحقيقة لا أعرف مدی صحة التهمة أو ما هي الأحراز التي وجدوها في شركته، ولكني أعرف أن إنتاج فيلم وثائقي ليس جريمة حتی لو كان سيُعرض علی قناة الجزيرة، إلا إذا كان سيبث ما لا يجب أن يعرفه الناس، أو أن هناك ما يجب أن يظل مخفياً دوماً عن الناس!
معتز في السجن وفيلمه في الأوسكار
ورغم ذلك سيمثل معتز مصر في محفل الأوسكار الدولي فيلم "لما بنتولد" مما يعني جدارته وقيمته الفنية للمشاركة في محفل دولي مثل هذا. ورغم انقسام أعضاء "نقابة المهن السينمائية المصرية" حول المشاركة في الأوسكار من عدمها بسبب ضعف المحتوی المعروض خلال السنة الماضية، وبالطبع بسبب التعليب الذي صار منهج أغلب صناع الفنون للبُعد عن القضايا المجتمعية الهامة التي قد تُعرض أي شخص للبطش من قبل النظام.
وحسبما ورد في صحيفة "اليوم السابع" فإن إعلان اختيار الفيلم جاء على لسان الناقد "مجدي الطيب" الذي كشف عن اختيار فيلم "لما بنتولد" إخراج "تامر عزت" ليمثل السينما المصرية في مسابقة أوسكار أفضل فيلم ناطق بلغة أجنبية من قبل اللجنة المكونة من 41 عضواً هو أحد أعضائها.
الفيلم يتناول ثلاث قصص لثلاث شخصيات مختلفة تواجه تحديات خاصة بسبب القيود التي فرضت عليهم وتتشابك القصص من خلال أغاني المطرب "أمير عيد" وهو صاحب قصة من القصص الثلاث، فالسيناريو يتعمق فى سؤال مهم هو: هل عندما تسعد نفسك ربما تؤلم من هم حولك بقصد أو بدون قصد؟
فيلم "لما بنتولد" من بطولة عمرو عابد في دور "أمين"، سلمى حسن في دور "فرح" والمطرب "أمير عيد" عضو فرقة "كايروكي" فى أول مشاركة سينمائية له في دور "أحمد"، وابتهال الصريطى في دور "عايدة" زوجة أمين، "محمد حاتم" في دور "أسامة" والحائز على جائزة أفضل ممثل من مهرجان "مالمو" للسينما العربية، دانا حمدان، بسنت شوقي في دور "يارا" الفنانة حنان سليمان في دور "والدة فرح" والفنان القدير سامح الصريطى في دور "والد أحمد" والموسيقى التصويرية للفيلم من تأليف شريف هواري عضو فرقة كايروكي".
أوسمة ونياشين فالصو
التسلط الديكتاتوري لا يؤثر على الفن والإبداع فقط، بل يؤثر على الناس ككل وعلى نظرتهم وعلاقاتهم مع العالم الخارجي. فكل ديكتاتور يمتلك دولة معادية له، أو عدة دول، مما يُنشئ بالتبعية صراعات وعداوات بين الشعوب وبعضها، وإذا كانت صرامة الديكتاتورية قد تؤدي إلى جعل الاقتصاد أفضل فإن هذا لا يشفع أبداً لكل الانتهاكات التي تُمارس لقمع الرأي الآخر وقتل المعارضة أو حالة المواطن الفردية التي قد تسوء بسبب قرارات اقتصادية قد تؤتي ثمارها علی المدی البعيد.
في هذا الإطار تحدثت صحيفة The New York Times rhzgm "يلعب الفنانون دوراً مميزاً في تحدي الاستبداد. يخلق الفن مسارات للتخريب والتفاهم السياسي والتضامن بين بناة التحالف. يعلمنا الفن أن حياة غير حياتنا لها قيمة. يمكن للفنانين الذين يشغلون مناصب اجتماعية مهمشة أن يستخدموا فنهم لتحدي هياكل السلطة بطرق قد تكون خطرة أو مستحيلة لولا ذلك، مثل مهرج البلاط الذي يضرب به المثل الذي يمكنه أن يسخر علانية من الملك في بلاطه".
أتساءل إلی متی سيظل العالم يحتفي بالديكتاتورية من أجل إبرام صفقات السلاح، إلی متی سيتم منح نياشين وأوسمة الشجاعة والشرف للديكتاتوريين رغم وجود الآلاف من الشجعان في سجونهم؟
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.