من المؤكد أن حسابات ماكرون كانت جد محدودة بخصوص تقديره لمخاطر اصطفاف الدولة في استهداف أكبر الرموز الدينية للمسلمين (النبي صلى الله عليه وسلم). فقد كانت تعتقد أن هذه القضية لا تختلف عن السابقة التي مثلتها "مجلة شارلي إيبدو" والتي لم تنتج من ردود الفعل ما يمكن استحضاره في تمثلات صانع القرار السياسي الفرنسي.
لكن الحسابات السليمة لصانع القرار، يلزم أن تأخذ بالاعتبار الفارق الكبير بين سابقة شارلي إيبدو (2006) وبين اللحظة الراهنة، كما يلزم أن يمايز بين إقدام جهة مدنية بالاستهداف، ووقوف الدولة على الحياد الذي تحتج به لتبرير عدم منعها المجلة من "حقها في حرية التعبير" وبين اصطفاف الدولة إلى جانب هذا الموقف، وتزامن ذلك مع انطلاق حملة تضييق واسعة على المسلمين، تنفذ بالحرف توصيات تقرير "صناعة الإسلاميين" الذي أنجزه مركز مونطاني بدعم مالي سخي من الرئيس إيمانويل ماكرون
الفرق بين السياقين، من حيث السياسة، يمكن أن يدرس من جهتين، جهة الداخل الفرنسي، وتزامن موقف ماكرون مع حملة مراقبة المساجد ومنع دخول الأئمة والمرشدين من خارج فرنسا، وممارسة التمييز ضد المسلمين لإخضاعهم ومؤسساتهم وجمعياتهم لمراقبة مالية شديدة لا تمارس على غيرهم، وإطلاق تصريحات من وزير الداخلية تمهد للحرب على المنتوجات الحلال، بحجة أن ذلك يخلق طائفية مقيتة تضرب علمانية فرنسا في الصميم. أما الجهة الثانية، فتهم الدور الذي قامت به فرنسا في تأليب الاتحاد الأوروبي ضد تركيا على خلفية التوتر في شرق المتوسط ورفض فرنسا لحق تركيا في تأمين مصالحها في هذه المنطقة، وتأليب أرمينيا ضد أذريبيجان، وما يمكن أن يتسبب فيه من حفز دول المجلس التركي كاملة في استثمار هذه السقطة السياسية الكبيرة من جانب ماكرون، وخوض معركة واسعة ضده، تساهم فيها دول وشعوب مسلمة عريضة تستعمل فيها ورقة المقاطعة الاقتصادية الرادعة
ليس هناك يقين أن الرئيس الفرنسي كان على وعي بشروط اللحظة السياسية، وما يمكن أن تجلبه تصريحاته من تداعيات خطيرة، تعصف بالكامل بشعبيته المهزوزة أصلاً، وتسهم في خلق انقسام داخلي فرنسي، بين من يسعى لتحصين التعايش، وتيار يميني محافظ ربما يستشعر في هذه الظروف أنها لحظته لكسب مزيد من الأصوات، وأن خطابه هو الأنسب لإشعال فتيل التوتر ضد المسلمين، فالتداعيات التي صدرت حتى الآن كافية لإثبات القصور في النظر وضعف التقدير السياسي، فلأول مرة يجد عدد وازن من السياسيين الفرنسسيين، أنفسهم في موقع العجز عن الدفاع عن الرئيس الفرنسي، مع أنهم يرون بأم أعينهم أن تصريحاته لا تضره، بل تعرض مصالح فرنسا للخطر، فباستثناء التيار اليميني المتطرف الذي يستثمر الفرصة لترصيد عائداته الخاصة، لا عائدات الرئيس الفرنسي، باستثناء هذا التيار الذي يدعو إلى التصعيد بدعوة الدولة الفرنسية لرد الفعل في التعامل مع المقاطعين، فإن ثمة قلقاً ينتاب النخب الاقتصادية الفرنسية من حملة المقاطعة، وقدرة تركيا بعض دول الخليج على إعطائها زخما كبيرا، قد يصل إلى دفع الشركات الفرنسية المتضررة إلى الاحتجاج على الموقف الصادر من الرئيس الفرنسي، وسوء تقديره لكلفة ذلك على الاقتصاد الفرنسي، فقد جربت إحدى الشركات الفرنسية كلفة مقاطعة الشعب المغربي لمنتوجاتها، وكيف اضطرت إلى بناء استراتيجية تواصلية بعيدة المدى من أجل إيقاف النزيف، ولا تزال إلى اليوم شركة سنطرال دانون الفرنسية، تعاني من آثار هذه المقاطعة إلى اليوم
التصريحات الصادرة من وزارة الخارجية الفرنسية تكشف جانبا من هذا التخوف والارتباك، ففي الوقت الذي تزعم فيه أن الذين يقودون المقاطعة هم أقلية من المتطرفين، فإنها في المقابل، تدعو الدول إلى التصدي لهذه المقاطعة ومنع التظاهر ضد فرنسا. وبغض النظر عن تناقض بلاغ الخارجية الفرنسية مع المستند الذي جعل ماكرون يدافع فيه عن الرسوم المسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم، أي الحق في حرية التعبير، وذلك حين سمحت الخارجية لنفسها أن توصي الدول بالتدخل لتضييق حرية الناس في التظاهر وفي المقاطعة، بغض النظر عن هذا التناقض، فإن البلاغ يخفي معطيات موثوقة بكون المقاطعة يمكن أن تأخذ مدى بعيدا، وأن من يقودها، أو بالأحرى من سيقودها ليسوا أقلية من المتطرفين كما يزعم بلاغ خارجية فرنسا، بل ربما شرائح واسعة أصيبت بصدمة من جراء استفزز شعورها الديني
ردود الفعل الأولى، التي صدرت عن فرنسيين، مثقفين وفلاسفة وسياسيين ورياضيين، تكشف جانبا من هذه الصدمة في البيئة الفرنسية، فبالأحرى من هم خارجها، ممن يتحللون من ضغط النموذج العلماني الفرنسي، ويرون أن بإمكانهم التفاعل مع دعوات للمقاطعة صادرة من علماء أو مثقفين أو حتى صادرة من تركيا التي تدير معركتها مع فرنسا في أكثر من منطقة.
التقدير، أن فرنسا لن تصمد طويلاً أمام هذا الزخم، وأن ميلها للضغط على بعض الدول الصديقة من أجل ضبط التعبيرات الإعلامية المقدور على التحكم فيها، لن يحل المشكلة، ففي ظل وجود وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت اتجاهات المقاطعة والتنديد بتصريحات ماكرون تتصدرها، لم يعد ممكنا ضبط المقاطعة ولا التحكم في حجمها. كما أن ضغطها على مسلمي فرنسا وهيئاتهم لكي يقنعوا العالم العربي والإسلامي بأنهم لا يتعرضون للتضييق، وأنه من الضرر بهم إشعال المقاطعة في وجه الصادرات الفرنسية، هذا الخيار، هو الآخر، لا يقدم أي حل للمشكلة، وربما تتحمل فرنسا آثار المقاطعة في بدايتها، لكنها ستضطر إلى أن تراجع موقفها، كما فعلت من قبل الدنمارك حينما ورطتها صحيفة "يلاندس بوستن في أزمة مع العالم الإسلامي خرجت منها بصعوبة" ، وذلك بعد أن تخرج النخب الاقتصادية المتضررة للاحتجاج العلني، فتلتقي مع جملة الانتقادات التي تتعرض لها السياسة الخارجية الفرنسية ماكرون من الداخل ، لاسيما إدارته للصراع مع تركيا، ودخوله إلى جبهات خاسرة معها.
الحل الأنسب في التقدير، ليس الضغط على الجهة الأضعف (مسلمي فرنسا وهيئاتهم التمثيلية) للقيام بدورهم في تجنيب فرنسا كارثة المقاطعة، ولا استثمار الصداقات الاستراتيجية لوضع الدول الصديقة في حرج مع شعوبها، ولا حتى ركوب لغة التصعيد، فثمة سوابق للاعتبار، تفيد بأن أفضل طريق للخروج من الورطة، أن تراجع فرنسا لغتها، وتعتبر أن المس بالرموز الدينية للمسلمين يعتبر مساً خطيراً بعقيدة جزء مهم من الشعب الفرنسي، وأنه كما يعتبر الطعن في الهولوكست مساً باليهود حتى ولو كان في إطار بحثي أكاديمي، يمكن في الحد الأدنى منع الرسوم المسيئة للرموز الدينية للمسلمين، واعتبارها مساً بعقيدة مواطنين فرنسسين واستفزازاً لشعورهم الديني.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.