“سيموت الكبار وينسى الصغار”.. بماذا نرد على جولدا مائير بعد 20 عاماً على استشهاد محمد الدرة؟

عدد القراءات
1,057
عربي بوست
تم النشر: 2020/10/04 الساعة 14:33 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/10/04 الساعة 14:33 بتوقيت غرينتش

في شارع صلاح الدين، يوم 30 سبتمبر 2000، يمشي جمال ممسكاً يد ابنه محمد. يحلم محمد ابن الاثني عشر ربيعاً بزيارة المسجد الأقصى لكن حلمه قصي عن التحقيق بمئة ألف متر وعشرة آلاف حاجز وألف تصريح. يحلم جمال بشراء سيارة جميلة رآها اليوم في مزاد السيارات، لو ادخر قليلاً من راتبه الزهيد ربما سيتمكن من شرائها وربما سيتمكن يوماً ما من تحقيق حلم محمد بزيارة الأقصى. وبينما يحلق جمال ومحمد في الحلم الفلسطيني الوليد يباغتهما رصاص الاحتلال، يطاردهما، يصلبهما على حائط إسمنتي وينهال عليهما وابل الطلقات من جميع الجهات. لم توقفهم لا استغاثات جمال ولا ارتجاف محمد في حضن أبيه. لم يتوقفوا حتى صرخ جمال ملء السماء مات الولد.

قتلوا محمد قبل أن يتعلم فن المقلاع والحجارة، قتلوه قبل أن يعرف طائر الفنيق وفروسية دون كيشوت، قبل أن يذوق لوعة الحب ويقرأ كماسوترا درويش، صلبوه قبل أن يختار رسالته ويحقق نبوءته. قتلوه طفلاً قبل أن يكبر ويغتاله اسمه في بلاد لا يستحق فيها الحياة إلا حملة توراة هرتزل.

"محمد، يسوع صغير ينام ويحلم فى قلب أيقونة/ صنعت من نحاس/ ومن غصن زيتونة/ ومن روح شعب تجدد/.. محمد، دم زاد عن حاجة الأنبياء/ إلى ما يريدون، فاصعد/ إلى سدرة المنتهى/ يا محمد". محمود درويش

مرّت عشرون سنة على استشهاد محمد الدرة ولا زالت صورته معششاً في حضن أبيه محفورة في جدران الذاكرة إلى جانب صورة ميلانة بطرس وهي تقف قرب جثث أبنائها الثلاثة وزوجها بعد مجزرة صبرا وشاتيلا: سنة 1985 نظم الجيش الإسرائيلي بمساعدة الحزب المسيحي مجزرة قتل واغتصاب في مخيم صبرا وشاتيلا، حيث تمت محاصرة المخيم ليلاً وممارسة القتل والاغتصاب على سكانه لمدة ثلاثة أيام قتل فيها ما بين 700 و3000 ضحية. ولا زالت صرخة جمال مات الولد تجرح الصمت فتنزف الذاكرة صوت الجنود في كفر قاسم عندما نادوا احصدوهم: يوم 26 أكتوبر 1956 فرض منع التجول على قرى المثلث الفلسطيني من بينهم كفر قاسم عاد سكان القرية متأخرين من المحاجر والحقول التي تقع خارج قريتهم فوجدوا الجنود الإسرائيليين ينتظرونهم يوقفون سيارة العمال، يتراجعون قليلاً، ينادي قائدهم احصدوهم، يطلقون النار على الجميع. تتكوم جثث العمال فوق بعضها فيزيحونها عن الطريق وينتظرون سيارة أخرى. لا زلنا نتذكر كل شيء.

هو إذن صراع الذاكرة. يتذكرون المحرقة وغرفة الغاز والتيه والتهجير وسفر أورشليم وستة ملايين قتيل ونحن نتذكر دير ياسين وجنين وخان يونس وغزة وصبرا وشاتيلا وشجر الزيتون المسروق والطفولة المغتصبة وسورة الإسراء. نتذكر ويتذكرون، فنمارس فعل الذاكرة سوياً إلا أن ذاكرتهم مشروعة وذاكرتنا تفتقد الشرعية. فهم يستحقون الأرض الفلسطينية والسماء الفلسطينية والهواء الفلسطيني والتين الفلسطيني والزيتون الفلسطيني لأنهم ضحايا اللاسامية في أوروبا. وعدد ضحاياهم ستة ملايين، عدد لا يقبل التشكيك ولا التدقيق والمراجعة وكله بموجب الأمم المتحدة. أما نحن فمن الأفضل أن ننسى الأحقاد القديمة ونتعلم العبرية ونوقع اتفاقيات السلام ونستقبل نتنياهو ونطعمه الكبسة ونغسل ملابسه على أنغام هاتيكفاه. أما قتلانا تولاهم الله برحمته فقد كانوا مذنبين لأنهم يمشون حاملين أحلامهم، معتزين بهويتهم فيستفزون الجندي الإسرائيلي لأنهم يذكرونه أنه بلا هوية، يفتح فمه ليصرخ "أنا أكون" فتخرج بالألمانية والكرواتية والتشيكية فيرفع بندقيته ويصوب على الضحية طاخ طاخ طاخ يسقط الشهيد أرضاً ويبتسم الجندي: "نعم أنا أقتل إذن أنا موجود". فهل يهزموننا في صراع الذاكرة؟

قالت غولدا مائير: "سيموت الكبار وينسى الصغار"، فقد راهنوا على انتصارهم وانهزامنا في لعبة الذاكرة منذ البداية. لكن الكبار ماتوا والصغار لم ينسوا بل صنعوا الذاكرة الفلسطينية بالحجارة ورددوا وراء أعدائهم لن ننسى ولن نغفر نحن كذلك، لأن ذاكرتنا ليست للنسيان. يفرضون علينا النسيان بهدم الجدار الصليب الذي اغتيل أمامه محمد الدرة فيجد الدرة مئات الجدران في العالم لتحتفي بنبوءته وتخلد مأساته. يشترون الحاكم والشيخ والقرارات والسماء لكن لم يستطيعوا شراء الحلم الفلسطيني الوليد الذي ما زال يسكن أطفال فلسطين، يقاومون بالحجر والدم والشعر، يؤمنون بعقيدة غصن الزيتون والبندقية، يصمدون أمام الصاروخ والدبابة ويخشاهم الموت عندما يستقبلونه بالزغاريد والابتسامة. وإن مات محمد فإن الحلم حي لا يموت.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
بسمة العاطي
طالبة تواصل مغربية
عمري 19 سنة أدرس في السنة الثانية من الإجازة المهنية في علوم التواصل وتقنياته بجامعة محمد الخامس بالمغرب، وقد اخترت مجال دراستي بناءً على شغفي بالصحافة بجميع مكوناتها وأنواعها. أكتب في مدونات عديدة من بينها مدونة زوايا ومدونة ساسة بوست، بالإضافة إلى صحيفة هسبريس المغربية، وقد اجتزت تدريباً مكثفاً لمدة شهر في التلفزيون الوطني المغربي.
تحميل المزيد