لم يكنِ الأدبُ يوماً مجرد رصٍّ للحروف، ورصفٍ للكلمات، وتنويعٍ في المرادفات في ألفاظ مسجوعة، وجملٍ تتجمل بالإيقاع، ونصوصٍ تتزخرفُ بالتشكيل وهي خاوية الإحساس، فارغة المعنى، عقيمة الشعور.
ومتى كان كذلك تحول إلى جثةً هامدةً لا نبض فيها ولا روح.
إن الأدب أبعد من ذلك، أعمق من ذلك، فهو رسالة منشودة، وغاية سامية، وقيمة عالية، تهدفُ إلى النهضة والرقي والسمو والنمو والتطور والازدهار في شتى مناحي الحياة.
يقول الأديب اليوناني نيكولاي كازنتكيس: "الأدب يحول دون تفسخ العالم".
والأدبُ يحفظ للأمم والشعوب هويتها وتراثها وقيَمها وحضارتها وكلّ ما يجعلها صامدةً أمام تحديات الواقع.
وقد صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حينما قال: "إنَّ من البيان لسحراً". فهو سحرٌ يأخذ بشغاف القلوب، وبمجامع الروح، فيتغلغل في جوهر المرء، وعمق الباطن ويسكب فيه شهد المعاني، ويفجّر فيه عيون الجمال، وينابيع الحسن، حتى يُدخل المتلقي في سكرة الاندهاش، وغيبوبة الذهول.
تتجلى قيمة الأدب باعتبارهِ مدخلاً إلى الحياة الإنسانية وما فيها من دينٍ، وتاريخٍ، وسياسةٍ، واجتماعٍ، وفنٍّ، واقتصادٍ، وثقافة. وهو بذلك عدسةٌ ترافق الحياة وتلج أعماقها ودهاليزها، توثّق ما في الأمم والشعوب من نشأة وانقراض، وصراعٍ واحتدام، وحرب وسلام، وانتصارٍ وانهزام، وخرابٍ وعمران، وتطورٍ وتقهقر.
وكذلك تكمن قيمته باعتباره باباً إلى فهم النفس البشرية، وفهم ماهيتها، وإدراك كنهها، وسبر أغوارها، والغوص في أعماقها، وما يعتملُ فيها من مشاعر، ويختلجُ من أحاسيس، وما يحدث فيها من انشراح واكتئاب، وابتهاجٍ وابتئاس، وفرحٍ وترح، ونعيم وجحيم.
إذ يمثل ركناً من أركان الجمال إن لم يكن الجمال كله، فالأدب أجنحةٌ تحلّق بالروح في سماء المعنى، وفضاء الجمال، وفلك الذوق، وتطوف بها بين مراقي الإبداع، ومدارج الفن. والمتعة الروحية.
الأدب بطبيعته يطيرُ بالنفسِ بعيداً عن عوالم الشهرة، والمادة، والهوى، والانحطاط المعرفي، والتردي الثقافي.
غير أنَّ الأدب بدأ يفقدُ شيئاً من رونقهِ، وبهائهِ، وزينتهِ في العصر الحديث لأسباب واضحة منها مواقع التواصل الاجتماعي التي أتاحت الفرصة لكلِّ من هبَّ ودبَّ دون رقيبٍ أو حسيب. أُناسٌ دخلوا عالم الكتابة الأدبية دون أنْ يغوصوا في لجج المعرفة، أو يتزودوا من معين اللغة، أو يتسلحوا بالوعي والمبادئ وما يجب على الكاتب أنْ يتسلح به من مقومات وأركان وثوابت. فبتنا نقرأ سطوراً ركيكة التعبير، عديمة البلاغة، تخلو من الروحِ والتأثيرِ، فضلاً عن رداءة المحتوى ومخالفته لمعايير البناء الجمالي للأدب ومفاهيمهِ التي لا تقبل التغيير، وأسسه التي يرتكزُ عليها، بل وما تضجُّ به نصوصهم من سقطات لغوية، وأخطاء نحوية، وأغلاط إملائية فادحة.
غارةٌ شعواء تحارب الأدب باسم الأدب، تُعرّي النصوص من الاحتشام، وتغتال الحياء، وتذبح المروءة.
تحت وهم المسميات وتشويه الأدب، يدلفُ الكثيرُ إلى عالم الكتابة فينسلخون من الأخلاق، والتقاليد، والأعراف القبلية، ومن الأدب ذاته!
تزني أقلامهم بلا مراودة فتاة أو امرأة عزيز.
تسفّل وانحدارٌ وولوجٌ في مستنقع الذيلية والتدهور والجري خلف سفاسف الأمور.
أقلامٌ تزني، وحروفٌ تتعرى من لبّ المبادئ، وطاقاتٌ تُهدر، ونصوصٌ تتمرغُ في وحول الشهوة، وكتّاب يتلذذون بازدحام القاع ومتعة الهبوط.
رواياتٌ خليعة، وماجنة، وعابثة بالمقدسات، ضاربة بالقيم والمبادئ عرض الحائط تحت مظلة حرية الرأي والتعبير. حتى بدأت هذه الروايات تجتاح صدر المكتبات، وتتصدر واجهاتها والقائمة الأكثر مبيعاً. وتلك لعمري طامّة وقيامة!
والعجيبُ أنّهم يبررون ذلك بالهروب من قسوة الواقع، وضغوطات الحياة، وصخب المشهد، بل وجدنا من يبرر إباحية نصوصه بالفساد في كتب التراث التي لا تخلو من ذلك. وتلك مقارنة ساقطة، وتبرير سافل لا ينمُّ إلا عن عري الداخل الذي يستحيل ستره، وتغطيته.
يقول سيد قطب متكلماً عن أدب الانحلال: أدب الانحلال هو في الغالب أدب العبيد. عبيد الطغيان، أو عبيد الشهوات. وحين تستذل النفس البشرية لطاغية من طغاة الأرض، أو لشهوة من شهوات الجسد، فإنها تعجز عن التحليق في جو الحرية الطليق، وتلصق بتراب الأرض، وترتكس في وحل المستنقع. مستنقع الشهوة، أو مستنقع العبودية سواء.
فأدب الانحلال على هذا هو أدب العبودية، وهو لا يروج إلا حين تفرغ الشعوب من الرغبة أو من القدرة على الكفاح في سبيل مُثل أعلى. مُثل أرفع من شهوة الجسد، وأعلى من تمليق الطغيان، لتحقيق مطمع صغير، أو مطمح حقير.. أي عندما تصبح (الدنيا سيجارة وكاس) أو تصبح الحظوة عند الطغاة أمنية المتمني في دنيا الناس.
إن انسلاخ الأدب اليوم بات جليّاً في المبنى والمعنى.
تقهقر وانزواء متجه إلى التحدر والتّسفل ويعود ذلك إلى الكتّاب الذين بدأوا يهبطون بمستوى العامة إلى مستوى الابتذال والتردي والتدهور.
ومن أسباب فقدان الأدب لقيمه الروحية هو كثرة دور النشر التي باتت تُتاجر وتتسابق في بيع الكتب وإصدارها في أغلفة جذّابة تسرُّ الناظرين. ولا تضع قواعدَ وقوانين تُجري على إثرها النقد البناء، والتنقيح الهادف. رواياتٌ وكتبٌ باتت تصفُ جسد المرأة بأدق تفاصيله وبعبارات خادشة للحياء، هادمةً للقيم، ناسفةً للأخلاق والتقاليد العربية، ومبادئ التربية والسلوك.
يُعرّف الجاحظُ الشعر بأنّه فضيلة العرب. والفضيلة تعني أطهر ما لدى الإنسان.
غير أنّ الجاحظ لم يدرك عصرنا هذا الذي تفسد فيه معايير الفن والجمال والكمال، وتُمتهن اللغة. حتى أمست اللغة المقززة قاسماً مشتركاً بين الأقلام التي تُسطّر الأدب الهابط، وتُروّج للانحلال والسفور، والارتكاس في مستنقع الشهوة بخلاعة الكلمات، ومجون الجمل، وألفاظ نابية، وقرف مرير وسوء في الإنشاء والتعبير. نصوص رومانسية فجّة لا تحمل أي قيم ولا أهداف ولا غايات إلا غاية الانهباط والترهل.
ومما يؤسف أنّ الأدب الهابط صار الطريق الأسرع إلى الشهرة وكسب الشعبية، والقاعدة الجماهيرية التي تفتقرُ لأدنى مقومات الذوق السليم، وتمييز الغثّ من السمين. وما تصنعهُ مواقع التواصل من هالةٍ وهمية تنفخُ الكتّاب وتدفعهم إلى مزيد من النتاج السخيف، والمحتوى التافه، والمضمون البليد.
يقول فقيه الأدباء وأديب الفقهاء الشيخ علي الطنطاوي: "أما قولهم هذا هو الفن فإني أنكره أشد الإنكار، إنّ الذي أعرفه أنّ الفن هو الذي يبحث في الجمال بحث العلم عن الحقيقة، وأنه يدرك بالعاطفة كما يدرك العلم بالعقل، فمن قال إنّ الجمال لا يكون إلا في الفحشاء والمنكر؟ أليس في تصوير الفضيلة جمال؟ والوفاء والوطنية والإخلاص والنبل؟ أخلت كلها من الجمال، واقتصر الجمال على ما يُثير الشهوة ويحركها. للأدب غاية هي تھذيب الطباع وصرف العواطف إلى الخير وتنبيه الضمائر الغافلة وإيقاظ الهمم والمروءات، وما إلى ذلك مما يكون منه نفع الناس" .
إن الأديب الحقيقي يُواجه اليوم معركة شرسة ضد تشويه الأدب، والعبث بأسسه ودلالاته وتجريده من هويته وتعريته من عوامل نهضته وسمّوه بالمرء إلى عوالم تفيض بالحس الفني.
وكذلك يُحمّلُ الأديبُ نفسه أمانةَ النهوض بالأدب وتجديده وإعادة الروح إليه، وإحيائه من السبات وإضفاء المتعة الجمالية، وضخ القيم الفنية في أرجائه.
وتلك مهمة شاقة، وأمانة ثقيلة، وعمل كؤود. لا يُوفّق إلى ذلك إلا قلّة نذرت نفسها وحياتها لهذا العمل الشريف.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.