جذبني فيلم وجدة قبل أن أُشاهده حتى، لكونه الفيلم الروائي الأول الذي تم تصويره في المملكة العربية السعودية، ولكون كاتبته ومخرجته "هيفاء المنصور" هي أول مخرجة سعودية، بالإضافة إلى أنّ الفيلم -كما علمت عنه- يعرض صورة حقيقية للمرأة في هذا المُجتمع المُغلق، ربما لأول مرة على الإطلاق.
وحينما شاهدتُ وجدة، رأيت كيف يكون العالم، بعيون طفلة سعودية، وهو عالم ضيّق، قاتم الألوان، تُجاهد وجدة، كي تُفسح لها مكاناً فيه، لا لتحيا فقط، وإنما لتنطلق، وتستمتع، وتُدخل عليه ألواناً مُبهجة، وموسيقى مرحة.
كيف كانت تجربة وجدة إذاً؟ وعلى أي شيءٍ انتهت؟
هذه هي رؤيتي للفيلم، والتي ستتضمن حرقاً للأحداث بالتأكيد.
أنثى مهزومة، وأم مثالية
أم وجدة، هي نموذج للأم العاملة، التي تُحضّر الطعام قبل ذهابها للعمل، حتى لا يتطلب الأمر وقتاً طويلاً لإعداده بعد رجوعها منه.
وهي في نفس الوقت، الزوجة الجميلة، التي تُحادث زوجها بدلالٍ ورقة، وكأنّهما في أيام زواجهما الأولى، وتحرص على أن تبدو في أفضل صورة ممكنة، بما في ذلك شعرها الطويل "المفرود" كما يُحبه زوجها.
تبدو الأم هادئة، رغم القلق الذي يعتمل بداخلها، والذي يدفعها أحياناً للصراخ في وجه وجدة بلا سبب، ثم تعود لتهدأ ثانيةً، فهي في النهاية تعلم أنّها لا تملك أن تفعل شيئاً، وأنّ الأمر وحده يقع في يد زوجها، الذي يُريد الزواج بأخرى، حتى يُرزق بذكرٍ يحمل اسمه.
تُعاني الأم من طول مسافة الطريق بين البيت والعمل، ومن السائق المُتذمّر، الذي يتحكّم في ذهابها وعودتها. وهذا ما يجعلها تشعر بأنّها مُقيّدة، لأنّها في حاجة دائمة لشخصٍ يقوم بهذه المهمة، لكون المرأة ممنوعة -وقتها- من القيادة.
تمرّ الأيام، ومازالت الأم تصنع أطايب الطعام، وتفرد شعرها بمكواة الشعر، مرة بعد مرة، وبعدها تذهب مع وجدة لشراء فستان جديد، وكل ما تفكر به، إذا ما كان سيروق لزوجها أم لا.
تُمازحه في مرة بأنّه "طالما يملك القمر بين يديه، فلا داعي للبحث عن النجوم".. تقولها بدلالٍ وثقة، وكأنّها على يقين من أنّه لن يفعل، وكأنّ قلبها لا ينتفض خوفاً ممّا قد يحدث، تقول لوجدة: "مستحيل يحرج جلبي، ويتزوج واحدة ثانية."، تُطمئن ابنتها، وهي تُطمئن نفسها أكثر في الحقيقة..
ولكنه يفعلها…
الغائب في الحاجة، الحاضر للوجع
في الحقيقة فإنّ الأب لا يشغل أي مساحة لها أهمية تُذكر، لا في الفيلم، ولا هنا في هذا المقال حتى، ولكنّي أذكره لأنّ غيابه هو من صنع الفارق في حياة وجدة، وجعلها أكثر قوة كما سنعرف لاحقاً.
أظهرت هيفاء المنصور شخصية الأب كالضيف، غير مُلوم على غيابه، ولا دور حقيقي لوجوده، سوى أنّه يأتي ليأكل، أو ليلعب البلاي ستيشن في البيت، وها هو يُعلنها صراحةً بأنّه سيتزوج بأخرى، ويخبر وجدة سريعاً قبل أن يذهب: "جولي لأمك إنّي أحبها"، مُضيفاً المزيد من الألم، وتاركاً الحياة لوجدة وأمها أكثر سوءاً ووحدة.
حرامي أبلة حصّة
أبلة حصة هي ناظرة المدرسة المُتجّهمة دائماً بلا سبب، التي دوماً ما تُذكّر البنات بأن صوتهنّ عورة، ودوماً ما تُكرّر لفظ "البنات المحترمات" اللاتي عليهنّ دوماً ألا يفعلن شيئاً ما، وهي من تُفتّش حقائب البنات، باحثة عن أي شيء ممنوع، يُمكنها أن توبخهنّ بشأنه.
ووجدة كانت تلميذتها المفضلة، في انتقاد حذائها المُختلف عن البنات، وفي فضح أمر شرائط الموسيقى، التي كانت وجدة تُخبّئها في حقيبتها.
ويبقى ما فعلته أبلة حصة، بعد فوز وجدة في مسابقة القرآن الكريم، أكثر شيء مؤذٍ فعلاً، وذلك حينما قررت أن تتبرع بمال وجدة الذي فازت به، لأطفال فلسطين، رُغماً عن وجدة، التي حلمت بهذه اللحظة طويلاً، كي تُحقّق حُلمها الذي ضاع الآن، بضياع المال الذي كانت تحتاجه.
ولكنّ وجدة التي لا تهاب أحداً، ولا تتنازل طواعية عمّا هو حق لها، ذكرت شيئاً ما عن "الحرامي" لأبلة حصة، وذهبت مرفوعة الرأس، تاركةً إياها فاقدة النطق من الصدمة. فالأقاويل في المدرسة، كانت تُشيع أنّ ببيت أبلة حصّة "حرامي"، وهو التفسير المهذب الوحيد لوجود رجل في بيت امرأة غير متزوجة.
وفيما يبدو، أنّ حرامي أبلة حصة، ليس بحرامي أبداً.
أبلة حصة هي نموذج واضح جداً، للمرأة التي تربّت بشكلٍ صارم، وعلى قواعد ثابتة بدون أية مرونة أو بعضٍ من اللطف. وهو ما تحاول أن تصنعه مع الفتيات في المدرسة، ولكنها للأسف، تفعل في الخفاء، كل ما هو عكس ذلك، وهي ازدواجية واضحة للعيان، يفعلها كثير ممن يُعانون من القهر المُجتمعي.
وجدة التي انكسرت مرّة…
أمّا وجدة، فهي طفلة حالمة، تبحث عن البهجة باستمرار، ليست كالفتيات في عمرها، تسمع الأغاني الأمريكية، وتلبس الأحذية الرياضية بأربطة ملوّنة، وعلى عكس ما يبدو، فإنّ وجدة، تملك من النضج ما يفوق سنّها، فهي تراقب في صمت ما يحدث حولها، تتقبّل التوبيخ في شجاعة، وبعدها تلهو غير عابئة بالعالم، وكأنّها تستهزئ بكل شيء.
تتشاكس مع صديقها وجارها عبدالله، الطفل المُقارب لها في العمر، والذي يمتلك درّاجة هوائية.
وهنا، بدأ العالم الرتيب يتغير في عين وجدة، حينما فكرت في أنّها تريد أن تمتلك دراجة أو "سايكل" كما ينطقونها، مثل صديقها عبدالله.
"إذا ما ركبتي سايكل، ما تجدري تحملين، ولا تجيبين عيال".
في اليوم التالي، وكأنّها إشارة من السماء، ترى وجدة دراجة موضوعة على سيارة نصف نقل، بدون تفكير تجري وجدة ناحية السيارة التي تتحرك..
تجري وجدة والسيارة تجري..
الدراجة تبدو وكأنّها حلم، تُطارده وجدة في شوارع المدينة، وكأنّها إن وصلت لها، ستصبح ملكها للأبد.
"السايكل مو للبنات، خصوصاً للبنات المؤدبات المؤمنات".
أصبحت الـ800 ريال ثمن الدراجة، هو كل ما تسعى إليه وجدة، حتى إنّ قرارها بالاشتراك في مسابقة القرآن الكريم، لم يكن إلا من أجل تحقيق هذا الحلم، الذي كان بينها وبينه خطوة واحدة، حتى جاءت أبلة حصّة، وأطاحت بها مئات الأمتار بعيداً عنه.
يسألها عبدالله: "وين الفلوس؟".
تُجيبه وجدة: "في فلسطين".
وكان هذا الانكسار الأول..
وتعلّمت الدرس مرّتين..
قالت وجدة لأمها ذات مرة، إنّها أجمل امرأة رأتها في حياتها، وإنّها كانت جميلة حقاً في ذلك الفستان الأحمر، الذي كانت تنوي شرائه من أجل أبيها.
تحاول وجدة بفطرة أنثى صغيرة طمأنة أمها التي تعيش تحت التهديد بتواجد امرأة أخرى في حياتها، لتشاركها في زوجها.
ترى وجدة ذات يوم لوحة مرسومة لشجرة عائلة أبيها، والتي في كل فرع منها، ورقة شجر باسم الأبناء الذكور لكل رجلٍ منها، بينما كان فرع أبيها فارغاً، بدون أوراق.
تقوم وجدة بلصق ورقة مكتوب عليها اسمها، في نهاية فرع أبيها، وبعد عدة أيام، تجد وجدة الورقة التي تحمل اسمها، مُنبعجة وشبه ممزقة، ومُلقاة بعيداً عن اللوحة.
تفهم وجدة الدرس جيداً، فشجرة العائلة لا تحوي إلا ذكوراً.
وجدة لا تعرف ملجأ في عالمها الصغير سوى أمها، هي الأمان الذي لا يُهدّد بقاءه شيء، بخلاف الأب، الذي يذهب ويعود، بدون أن يفتقده أحد.
وفي نفس الليلة التي بكت فيها وجدة، حينما سُرق منها حلم الدراجة، شهدت وجدة بكاء أمها، التي سُرق منها زوجها أيضاً، ولكنّ الفارق، أنّه سُرق بكامل إرادته الحرّة.
وبدا المشهد ما قبل الأخير بليغاً.. فالأم والابنة يحتضنان بعضهما فوق سطح البيت، ومن بعيد يُمكنك سماع أصوات الدفوف والتهليل للعرس، فيما تُنير السماء الألعاب النارية.
وتعلّمت وجدة الدرس الثاني قبل ذلك بدقائق، حينما أبت أمها الحبيبة أن تتركها حزينة، واشترت لها دراجة أحلامها.
وكان ذلك الدرس هو، أنّ النّساء هنّ من ينتصرن لأنفسهنّ في النّهاية.
ثمّ حلّقت حرّة في السماء..
وها هي وجدة تقود الدراجة في شوارع المدينة، وكأنها تطير بها، غير عابئة بنظرات الاندهاش ممن حولها، وحينما يراها صديقها عبدالله الذي لم يصر مُتعنتاً كالرجال بعد، يبتسم لها، سعيداً بانطلاقها.
كان هذا مشهد النهاية، والذي يقول إنّ الأمل مازال باقياً.
تركت وجدة كل أوجاعها خلفها، وانطلقت بالدراجة، متحررة من كل شيءٍ.
والدراجة هنا ما هي إلا رمز، للحرية والانطلاق، والفكاك من كل القيود التي يفرضها الإنسان على غيره.
وكان انتصار وجدة الحقيقي، هو أنّها حلّت القيد الأول.. والبقية تأتي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.