حريتنا تولد معنا.. ونخسرها بممارستنا الفكرية

قليلون من يصلون بنجاح، لكن بعد أن يخسروا الكثير، أولاً ذاتهم الأولى الفطرية، وثانياً سلام الأسرة أو الأسرة كلها، وبالتأكيد سيخسرون محيطهم الاجتماعي وطائفتهم، ولا بد أن يصطدموا مع السلطة السياسية، فيدفعون ثمناً من حريتهم في اعتقال أو ملاحقة.

عربي بوست
تم النشر: 2016/12/17 الساعة 03:39 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/12/17 الساعة 03:39 بتوقيت غرينتش

نولَد في الشرق في محيط مليء بالرضوخ والقناعة المرتبطين أساساً بالكسل والخمول الفكري والبدني الناشئ إلى حد بعيد من المناخ الحار.

لكن القدر المناخي الفسيولوجي لا يكسره إلا قرار منبثق من العقل والضمير معاً، قرار بالتحرر من القدر الأرضي، وهذا القرار هو إلى حد بعيد قرار سماوي، فكل ما يتعلق بالعقل هو من السماء، وكل ما يتعلق بالجسد هو من الأرض، وانتصار العقل على الجسد والظرف أمر لا شك فيه عند الأحرار أصحاب العقول الحرة.

مع ذلك ليست الحرية فعلاً إلهياً كفعل الخلق، إنها تحصيل بشري له أشكال وكيفيات متعددة بتعدد البشر والمجتمعات والظروف والتجارب، لربما كان الأفضل أن نتحصلها بالقانون، وقبل القانون بخلق وعي بضرورة الحرية، في كل حال لا بد من شخص حر أول كما عقل أول، يمارس الحرية ويدعونا إليها، هذا الشخص سيوجد دائماً في كل زمان ومكان، لكنه بفعل وجود السلطة المحتاطة من أي فكر حر أو صاحب دعوة للحرية يتم اعتقال هؤلاء الأحرار أو قتلهم أو إبعادهم أو عزلهم عن المحيط عند أول بادرة حرية منهم.

مراحل الحرية الثلاث:

نقارب موضوعنا الآن لنقول إن الحرية إما أن تكون قضية خارجية نرغب بممارستها فتكون عندها اختباراً من أهم اختبارات الحياة، أو تكون انبثاقاً من ذات الفرد وأعماقه بعد أن يختبرها فتصبح موضوعاً داخلياً متماهياً مع الذات، وفي المرحلة الثالثة تصبح الحرية متماهية مع الذات، بحيث لا تفرق بين الاثنتين، تصبح الذات الحرة طبعاً عند صاحبها، فكل ما يصدر عنه يصدر عن ذات حرة.

الحرية كموضوع خارجي تختبر من الإنسان الذي يرغب أن يكون حراً فيصطدم أولاً مع ذاته التي اكتسبت العبودية، أو العادات غير الحرة من الأسرة والمجتمع والإعلام، وهنا يصطدم بالأكثر خطورة بالأفكار النمطية التي تأتي من الاعتقادات الشعبية والدين والسلطة السياسية ومن ثم يصطدم مع أسرته التي تريد ضبطه بقيود "الأخلاق الخاصة بها"، ومن ثم يصطدم مع مجتمعه الصغير قريته أو حارته التي لها أخلاق خاصة أيضاً، ومن ثم يصطدم بطائفته، ومن ثم يصطدم بالمجتمع الكبير، وهو أقل المراحل صعوبة.

في مرحلة الاصطدام يتم اختبار الحرية، وفي كل مواجهة تتم إعادة برمجة الذات والعقل، بحيث تتغير قناعات الإنسان طالب الحرية بشكل مستمر إلى أن يستقر على قناعة ما في نهاية هذه المرحلة العصيبة، مرحلة اختبار الحرية.

قليلون من يصلون بنجاح، لكن بعد أن يخسروا الكثير، أولاً ذاتهم الأولى الفطرية، وثانياً سلام الأسرة أو الأسرة كلها، وبالتأكيد سيخسرون محيطهم الاجتماعي وطائفتهم، ولا بد أن يصطدموا مع السلطة السياسية، فيدفعون ثمناً من حريتهم في اعتقال أو ملاحقة.

الحرية كموضوع داخلي تتحقق حين النجاح في اختبار الحرية عبر الصراع مع الذات الفطرية الأولى ومع العامل الخارجي، أي الأسرة والمجتمع والطائفة والسلطة السياسية، هنا تصبح الحرية موضوعاً داخلياً ذاتياً، ويصبح الإنسان حراً، فيبدع لذاته أساليب وسلوكاً وأفكاراً تحميه وتحوله إلى كائن مستقل شبه كامل عن الخارج، أي العالم، يتحول في المرحلة الثالثة إلى ما يشبه الشرنقة أو الصوفي الذي لا يرى سوى بعين ذاته الحرة، ويصل إلى الأخلاقية الكاملة.

الحرية حالة صحية:

باعتبارها حالة مناسبة تماماً للنفس والعقل والوجود، حالة صحية، على خلاف الانغلاق والقمع والاستبداد والخوف، فالحرية حالة دماغية أولاً أو عقلية، تؤدي إلى حالة نفسية تورث الطمأنينة والتوازن والقوة والاحترام والفاعلية والنجاح، على خلاف القمع والانغلاق اللذين يورثان الاستبداد والكراهية والخوف.

التحرر السياسي أيضاً كما الحرية الاجتماعية الفردية لا يكون إلا بالدعوة إلى الحرية كخيار أفضل للإنسان، وبعد الدعوة لا بد من الفعل، والفعل يبدأ بتنظيم مدني سلمي أو عنفي في حال الحرية السياسية، أو تنظيم مدني سلمي في حال الحرية الاجتماعية، دون أن ننسى أن الأنظمة المستبدة تواجه كل دعوة منهما على السواء بالاعتقال والعنف أو القتل.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد