ليس من عاداتي التطرق إلى ظروفي الخاصة، وأهمها العائلية، إلا أنني في هذا المقال سأضطر إلى خرق هذه القاعدة لأمر غاية في الأهمية بنظري.
بعدما انتشر خبر خطبتي لشقيقة الروح رُقية -قبل عام وأسبوع تحديداً- من بين ما جاء من ردود الفعل كان تساؤلاً متكرراً: "رايح لآخر الدنيا وتأخرت بزواجك، وآخرها تاخذ بنت عمر 25 سنة، وكاينة (ساكنة) بالقدس لحالها سنين! يا أخي لو ما كان ميؤوس منها لما ظلّت للحين!"، عدا عن الوقاحة في التصريح بمثل هذا القول، إلا أنني لا أتسرع اليوم لاستسخافه كما كنت أفعل سابقاً، وجاء الوقت للرد عليه.. فزوجتي اليوم التي ما زالت تُعد رسالة الماجستير في المختبر الطبي، وتعمل حتى ساعات الليل المتأخرة، وتسافر بشكل شبه يومي.. أنا اليوم مدين لها بحُريتي!
لا أبالغ.. فبعد أن خرجت من تجربة اعتقال، وإن كانت قصيرة، إلا أن ما علمته منذ حل آخر كلبشات، هو أن زوجتي قاتلت من أجلي في الخارج.. فقوة شخصيتها وعلمها وخبرتها في الحياة مكنتها من تفعيل نشطاء لم تعرفهم عبر الشبكات الاجتماعية، ومن تغيير مسارات قضائية ومن المشاركة في مداولات قانونية عادة ما يتم إقصاء النساء عنها.. دون أدنى شك، لو أن شريكتي كانت كما تُطالب مُعادلة بعض الذكور (وأمهاتهم)، لما كان سيصدر عنها غالباً إلا المكوث في البيت والحسرة على ملابسي المتسخة، وبالكثير بعض القيل والقال بين الجارات..
أقحمكم بهذه التفاصيل لغاية واحدة ووحيدة -الكم الهائل من الصبايا المُنتجات، المبادرات، المثقفات والرياديات- اللواتي نخسر ما بهن من طاقات عاماً بعد الآخر.. فبمُجرد أن تصل الصبية إلى موضع استقلال وظيفي أو مكانة علمية أو حتى وجود الطموح لديها بأن تبني إلى جانب الأسرة سيرة مهنية أو علمية، تُصبح الأنثى مُهددة لكيان الشاب ويمتنع حتى عن التفكير بأن تكون شريكة له في بناء بيت العُمر.
لست على دراية علمية كاملة فيما إذا كان الأمر يعود إلى أنانية مفرطة لدى هؤلاء الشباب بأن يحتكروا حصاد الألقاب والإنجازات لأنفسهم، أم أنه نوع من الخوف والجُبن بأن تكون المرأة إلى جانبه قوية أيضاً فتشكل تهديداً بالنسبة له (ولا سمح الله تطالب بحقوقها أو ترفض أن تُضرب)، أم أنه مجرد جينات وراثية عفا عليها الزمان.. الأكيد أن هذه المعادلة لا رابح فيها.
لا شك أن الظلم الأكبر تقع ضحيته كل تلك الرائدات من بنات مُجتمعنا، ظُلم وقهر على صعيد مجتمعي، سهولة في إلصاق التُّهم الباطلة، وقد تجد نفسها في النهاية تتنازل عن إطار الأسرة أو ترضى بمن لا يُناسبها كُلياً وتصمت عن الأذى فيما بعد أو حتى ترضخ لما هو أكثر ظُلماً وفساداً.. ويكفيها دوامة الإحباط وانعدام العدل المجتمعي.
والجميع خاسر هنا: المجتمع؛ لأنه يفقد عناصر مُنتجة ونشطة ومفكرة، والشباب التائه الذي يرد على ضغوط المجتمع ويضعف إنتاجه فيما بعد؛ لأنه فضّل ذات الجمال الخارجي "المبهر" على الأوعى والأعلم، أو اختار ذات الـ19 عاماً على ذات 28 سنة، رغم أن الثانية كانت ستربي أبناءه كما لم يحلم هو يوماً.
أعزائي العُزاب من الشباب.. كيف تريدها متعلمة ومقتدرة وأنت تتوقع أن لا يتعدى جيلها العشرين؟! إن كُل سنة نُضج للصبية سترفعك أنت درجة، إما في أن تُقيمك في حال الأزمات، وإما أن ترفعك أكثر في حال النجاحات، كفاك تردداً، واعلم أن بناء الأسرة أوسع وأولى بكثير من أن يُرهبك أنها "قوية"، أو أنها في ذات السِن مثلك أو أنها ذات شهادة علمية تفوقك، بل والله إني لأتمنى أن تحقق زوجتي أعلى من مراتبي علمياً ومهنياً، فكياننا واحد، وإلا فما حاجة عقد القِران إن لم يكن للوصل وجعلكما معاً كياناً واحداً.. ليس هو بتاتاً من باب "المقارنة" بينكما.
ثم إن هذا الموضوع والله مُزعج أكثر، بالأخص عندما يكون الشاب الذي ينفي مثل هذه الفئة من الفتيات ويرفضهن هو من شريحة "المتعلمين".. وهذه السخافات تمخمخ في رأسه ويسلّم لها دون مواجهة المجتمع.. والأنكى أن يكون أيضاً "مُلتزماً"، وينسى أن قدوته خير البشر محمد صلى الله عليه وسلّم تزوّج أمنا سيدة المؤمنين خديجة بنت خويلد، كان عمره 25 وعمرها 40 عاماً؛ بل ولم تكبره سناً فحسب، بل حتى كانت هي التاجرة وذات التأثير وهو العامل عندها.. وإن تطرقت لقوة الشخصية، فيكفيك انها هي التي عرضت عليه الزواج، وهو خير من دب على هذا الكوكب من البشر عقلاً وجمالاً، فما كان إلا أن تكون هي أوّل من آمن برسالته من الرجال والنساء وعمَّته وآزرته بشخصها ومكانتها ومالها، وكان جبريل يقرئها السلام.
مدارسنا الثانوية في غالبها اليوم فيها أعداد الإناث ضعف عدد الذكور، والتعليم الأكاديمي فيه الطالبات طبعاً أكثر، معناه أن هذه الحالة العصيبة إن لم تُحل مجتمعياً ومن اختيارات الشباب، ستوقعنا في كوارث، بدلاً من أن تكون رافعة عظيمة نتباهى بها.. طالبات دكتوراه، مبادرات في شركات هايتك، طبيبات رائدات، باحثات، محاميات، صحافيات وغيرهن الكثير، إن لم يكن هن جزءاً من "معادلة الزواج" في مجتمعنا، فهو أمر لا أرى أن فيه رضا المولى وبالطبع لا يطابق أي منطق لشعب سيذكره التاريخ في يوم!
تذكّر يوماً ما ستجلس مكاني في أزمة ما، إما أن تنقذ هي حياتك، وإما تجعل الوحل لزجاً أكثر من تحتك من كثرة بكائها، فخوفك سيزول بمجرد أن تعلم أنها يوماً ما في مكان ما قد تكون هي جيشك الأول.. لا تخَف.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.