يوميات مُغترب.. يوم طردتُ من بلدي

كل تلك القلوب التي اشتاقت إلى تراب طالما اتسخت ملابسهم به وهم يلعبون أمام منازلهم، وهم يحاولون صنع الفرحة التي حاولوا صنعها أملاً بمستقبل أفضل، ترابٍ دفنوا فيه أحبتهم بعد أن وصلت آجالهم، لكنهم ما زالوا مصرّين على حبه والحنين إليه والافتخار بالانتساب إليه.

عربي بوست
تم النشر: 2016/11/23 الساعة 03:05 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/11/23 الساعة 03:05 بتوقيت غرينتش

هنا لن تسمع صوت أمك، لن تحضر حفلة على إيقاع الألحان الوطنية، النساء المطرزة بألوان الثوب الفلاحي المُبهج، لن تعانق أباك عند استقبال خبر محزن أو بعد يوم مُتعب، لن تتصل بصديقك كل صباح تسأله عن جدول عملك، لن تشكر أحدهم باستعمال عبارات تدل على هويتك أو دينك، ستتردد ألف مرة قبل أن تتصرف أي تصرف قد يفهمه الآخرون جهلاً أو تطرفاً، ستكون قوياً وأنت في أقصى مراحل ضعفك؛ لتثبت لهم أنك لا تختلف عنهم، ستختار ألفاظك بعناية.

ستعيش حراً كريماً في الغربة، نعم.. لكنك ستشعر دائماً بأنك نقطة سوداء وسط لوحة تتناسق كل ألوانها ما عدا الأسود.

الخروج من القفص، الحرية المطلقة، والانفتاح الفكري، والتقدم الحضاري، لكنها حياة وجع أيضاً، وجع المغتربين الذين لا يجدون من يشاركهم طعامهم ويملأ غرف بيتهم الصغيرة، وجع لمن رمت لعنتها عليه فلا يجد مورد رزق ولا مسكناً يغطي جسده المتهالك ولا حتى كلمات مواساة أو دعاء، وجع لمن هربوا من ظلمات الحرب والقهر والموت؛ لتستقبلهم المدينة بالبرد والجوع وجرائم الكره والعنصرية.

لا أعشق القهوة ولا الشاي ولا صوت فيروز، وحتى هذا المنظر الجميل من نافذة غرفتي لا يغريني.

أشتاق إلى أسرتي وكل أفراد عائلتي.. إلى أصدقائي وإلى بلدي.. أن أبتسم لدعوات مريض قدمت له الخدمة الطبية اللازمة، أن أسمع الشوارع تنبض بكلمات تشعرني بالأمان، إلى الوجوه المألوفة التي طالما اعتدت على رؤيتها صباح مساء.

كل تلك القلوب التي اشتاقت إلى تراب طالما اتسخت ملابسهم به وهم يلعبون أمام منازلهم، وهم يحاولون صنع الفرحة التي حاولوا صنعها أملاً بمستقبل أفضل، ترابٍ دفنوا فيه أحبتهم بعد أن وصلت آجالهم، لكنهم ما زالوا مصرّين على حبه والحنين إليه والافتخار بالانتساب إليه.

أستغرب لمن يغادر وطنه وأهله ويتنكر لهم ويصفهم بأقبح الكلمات، أؤمن بأنه لا يدرك معنى الانتماء ولم يعتبر نفسه جزءاً من ذلك الوطن من قبل.

الوطن ليس شخصاً نتهمه بالتقصير أو اللامبالاة، إنه أنت وأنا وهم، إنه اختيار زوجٍ صالحٍ وتربية أبناء بكثير من الوعي والحب والمسؤولية، إنه الحضن الدافئ، إنه الليالي التي تقضيها في المذاكرة لتصنع مستقبلاً، إنه دعوات وسجدات والدتك في جوف الليل، إنه حفل زفاف تُسمع زغاريده من بعيد، وصرخة رضيع استقبلته الدنيا ليصبح هو أيضاً قطعة منا ونحن نصنع مستقبل الوطن.

الوطن باختصار: تلك الأم التي لن تقسو عليك مهما أخطأت بحقها، حتى لو كنت عاقاً لها وعدت يوماً إليها طالباً عفوها، فلن يخذلك ذلك الحضن.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد