تعتبر مؤسسات الفكر والرأي واحداً من بين أهم المؤثرات في صياغة وصناعة السياسات للدولة والمجتمع، من خلال تقديمها الحلول الملائمة للمشكلات التي تواجه الدول، لكنها في نفس الوقت أقلها فهماً وتقديراً، وهي بمثابة مراكز أبحاث سياسية مستقلة يتم إنشاؤها بهدف إجراء الأبحاث وإنتاج معارف مستقلة متصلة بالسياسة، وهي تشكل ظاهرة أميركية مميزة للتعاطي مع العالم، ولفترة تقرب من المائة عام، وتسد مؤسسات الفكر فراغاً في غاية الأهمية بين العالم الأكاديمي من جهة وبين عالم الحكم من جهة ثانية، ولكن كون تلك المراكز تقوم بمعظم مهامها بمعزل عن أضواء وسائل الإعلام يجعلها تحظى باهتمام يقل عما تحظى به المؤسسات الأخرى.
وقد حصل بروز وارتقاء لمؤسسات الفكر والرأي بصورة متوازية مع ارتقاء الولايات المتحدة وتزعمها العالم، وخصوصاً بعد عام 1945 عندما أخذت الولايات المتحدة على عاتقها مهام دولة عظمى ودفاعها عن (العالم الحر) مع اندلاع الحرب البادرة، حتى وصل عددها بحلول القرن الواحد والعشرين إلى أكثر من 1200 مؤسسة فكر ورأي موزعة على كامل الساحة السياسة الأميركية؛ لتمثل مجموعة غير متجانسة من حيث اتساع نطاق المواضيع والتمويل والتفويض والموقع، فبعض تلك المؤسسات مثل معهد الاقتصاد الدولي ومؤسسة الحوار بين الدول الأميركية، أو معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، يركز على مجالات وظيفية محددة أو مناطق معينة، في حين تغطي مؤسسات أخرى، مثل مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، السياسة الخارجية الأميركية بصورة عامة، ولدى القليل من مؤسسات الفكر والرأي مثل بروكنغز مِنح وقفية ضخمة، فلا تقبل بالتالي إلا القليل من التمويل الرسمي، في حين تحصل مؤسسات أخرى، مثل مؤسسة راند، على معظم إيراداتها من عقود للقيام بأعمال لزبائن في الحكومة، وفي القطاع الخاص.
بينما تعتمد قلة منها، مثل معهد السلام الأميركي، بصورة شبه كاملة، على التمويل الحكومي، وتقوم مؤسسات الفكر والرأي في بعض الحالات بدور إضافي كمنظمات غير حكومية ناشطة في قضية معينة، فمجموعة الأزمات الدولية مثلا تنشر شبكة من المحللين في الأماكن الساخنة حول العالم لرصد الأوضاع السياسية المتفجرة، وتضع توصيات مبتكرة ومستقلة من أجل إحداث ضغط عالمي لإيجاد حل سلمي لها.
يقول ريتشارد هاس، مدير دائرة التخطيط السياسية في وزارة الخارجية الأميركية، إن مؤسسات الفكر ومراكز الدراسات توفر لصانع السياسة الأميركية فوائد كثيرة، منها:
1 – توليد أفكار جديدة لدى صانعي السياسة الأميركية تساعده على تجديد السياسة، وتوفر له خيارات مبتكرة ومتجددة، ولكي تنجح مؤسسات الفكر في ذلك تحتاج إلى استغلال قنوات متعددة واستراتيجيات تسويق، منها نشر مقالات وكتب وأبحاث ودراسات، والظهور بصورة منتظمة على شاشات التلفزيون، وفي مقالات الرأي، وعلى صفحات الجرائد، ومقابلات صحفية وبيانات حقائق وصفحات على شبكة الإنترنت، كذلك توفر حلقات النقاش لمراكز الفكر والدراسة خيارات متعددة، فالبحّاثة هم في الغالب مستقلون لا تقيدهم الوظائف الحكومية، وبالتالي يستطيعون إعطاء تقييم صريح للتحديات التي تواجه بلدهم ومجتمعاتهم، وكذلك توفر ردوداً ذات نوعية عالية.
ومن الأمثلة على ما توفره تلك المراكز من أفكار جديدة، هو ما نشرته مجلة فورين أفيرز لمقال بعنوان "أسباب التصرفات السوفيتية"، وهو مقال كتبه الدبلوماسي الأميركي جورج كينان، أسهم هذا المقال في إقامة الأسس الفكرية لسياسة الاحتواء التي اتبعتها الولايات المتحدة خلال العقود الأربعة التالية ضد الاتحاد السوفيتي، كما أسهمت دراسات قام بها مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية ومعهد هيرتيغ وبروكنغز بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001، أسهمت جميعاً في النقاش الذي دار داخل الحكومة الأميركية حول الاستراتيجية المناسبة والواجب اتباعها لمواجهة التهديد "الإرهابي" في الداخل والخارج.
2 – توفر خبراء للعمل (توفير المواهب) في الحكومة ومؤسسات الدولة، تعتبر هذه الوظيفة التي تؤديها تلك المراكز بالغة الأهمية في النظام السياسي الأميركي، ففي كل انتقال للسلطة يتم استبدال مئات الموظفين من الدرجة المتوسطة أو من كبار الموظفين في السلطة التنفيذية، وتساعد مؤسسات الفكر والدراسات الرؤساء على سد هذا الفراغ من خلال ما توفره من خبراء ومستشارين للعمل في تلك الوزارات، فقد استعان رونالد ريغان بمؤسسة هيرتيبغ ومؤسسة هوفر لتشكيل هيئة خبرائه ومستشارية في الحكومة وكذلك إدارة بوش (الابن) الذي ملء وظائف المستويات العليا في جهاز السياسة الخارجية بخبراء من تلك المراكز البحثية.
ومن جهة أخرى، توفر هذه المراكز للموظفين الرسميين بعد مغادرتهم مناصبهم الحكومية مواقع مؤسساتية يستطيعون فيها تشاطر ما اكتسبوه من خبرة وتبصر خلال خدمتهم في الحكومة، والاستمرار في لعب دور مؤثر في النقاشات وتشكيل نوع من مؤسسة ظل غير رسمية، وهو ما يطلق عليه سياسة "الباب المفتوح"، وهو ما تتفرد الولايات المتحدة به، وهو من مصادر قوتها، ففي أغلب الدول المتخلفة يجد المرء فصلاً حاداً بين الرسميين الحكوميين المحترفين وبين المحللين الأكاديميين، أما في الدول المتقدمة فيشغل الموظفون الرسميون مراكز مهمة في تلك المراكز الفكرية، ومن هؤلاء هنري كيسنجر وزير الخارجية (1973 – 1977)، ومساعد الرئيس لشؤون الأمن القومي خلال إدارتي نيكسون وفورد (1969 – 1975)، مدير الدراسات في مجلس برنامج العلاقات الخارجية الخاص بالأسلحة النووية والسياسة الخارجية (1955 – 1956)، وزبغينو بريجنسكي مستشار الرئيس كارتر للأمن القومي (1977 – 1981)، مستشار في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، وأيضاً ريتشارد بيرل، باحث مقيم في معهد أميركان إنتربرايز، رئيس مجلس السياسة الدفاعية في وزارة الدفاع، وسابقاً مساعد وزير الخارجية لسياسة الأمن الدولي (1981 – 1987)، وغيرهم الكثير.
3 – اشراك الجمهور من خلال تثقيف الموطنين وتوعيتهم بنوعية التحديات التي تواجههم، فمع ازدياد اندماج العالم أكثر فأكثر باتت الأحداث والقوى العالمية تطال حياة المواطن أينما كان وتوثر عليه، وأصبح للمواطن دور فعال من خلال التأثير في سياسة دولته، وهنا يأتي دور مراكز الدراسات والفكر من خلال توفير منتديات ولقاءات يمكن فيها للمواطنين وطلاب الجامعات والمثقفين أن يتناقشوا حول الأحداث الدولية.
4 – كما يمكن أن تلعب مراكز الدراسات دوراً في رعايتها للحوارات الحساسة وتأمين وساطة بين الأطراف المتنازعة الداخلية أو الخارجية، من خلال رعايتها لمفاوضات وحوارات غير رسمية، فقد لعب مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية دوراً في إطلاق مشاريع لتحسين العلاقات الإثنية بين سكان يوغوسلافيا السابقة، ولمد جسور بين الانقسامات الدينية – العلمانية في إسرائيل وتسهيل الحوار اليوناني – التركي، ففي أحيان كثيرة تكون الجهود الحكومية غير مرغوب بها؛ لكونها طرفاً في نزاع وكبديل عنها يأتي دور تلك المراكز لتلعب هذا الدور والقيام به باعتبارها مراكز مستقلة وعلمية.
نستنتج مما سبق أن هناك دوراً كبيراً ومهماً من الممكن أن تلعبه مراكز الدراسات والفكر، ويمكن أن تقدم خبراء واستشارات ووصفات للحلول السياسية، وهي صفه لازمت الدول المتقدمة بصفة عامة والولايات المتحدة بصفة خاصة، استطاعت من خلالها النجاح وتجاوز كل المشكلات التي تواجهها، لا بل وقيادتها العالم، والتحكم والسيطرة عليه.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.