عالم نبيل من علماء الصحابة وحفاظهم وفضلائهم البارعين ونجبائهم الميامين، وفقهائهم المجتهدين، وفرسانهم المجلين، إنه الإمام المجاهد، مفتي المدينة سعد بن مالك بن سنان بن ثعلبة بن عبيد بن الأبجر بن عوف الخزرجي، المكنى بأبو سعيد الخدري (رضي الله عنه) وأرضاه.
اسمه ونسبه:
المشهور عند المؤرّخين أنّ أبا سعيد الخدري (رضي الله عنه) اسمه سعد، بن مالكٍ بن سنان بن ثعلبةٍ بن عبيدٍ بن الأبجر بن عوف بن الحارث بن الخزرج، وذهب ابن هشام إلى أنّ اسمه سنان، وأياً كان اسمه؛ فقد كان إماماً ومجاهداً ومُفتِياً للمدينة المُنوَّرة، وأحد الفقهاء المُجتهدين، وكان ممّن شَهِد غزوة الخندق وبيعة الرضوان.
صفاته ومناقبه (رضي الله عنه):
تتجلّى أخلاق أبي سعيد الخدريّ (رضي الله عنه) ومناقبه، وتبرز بجمالٍ فريدٍ لا مثيل له في سيرته، وتلك بحقٍّ هي منابع الإيمان التي تثمر في قلوب المؤمنين؛ إذ تمثّل حلاوة القُرب من الله -تعالى-، وابتغاء مرضاته ومَحبّته، ومن أجلّ أخلاقه السَّمحة رضي الله عنه:
الصبر: بَرزَ الصبر في شخصيّة أبي سعيد الخدريّ (رضي الله عنه)بشكلٍ لافتٍ، وهذا الخُلق من جميل أخلاق العبد المؤمن، وقد وصفه بذلك كُلّ من رآه؛ لتأصُّل هذا الخلق العظيم في شخصيّته.
الشجاعة والجرأة: تميّز الصحابيّ الجليل أبو سعيد الخدريّ (رضي الله عنه) بمواقفه الجريئة التي وقفها مع النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-؛ فهو رجلٌ بحقٍّ، لا يخاف في الله لومة لائمٍ، وقد تعدّدت شجاعته في شذراتٍ، يُذكَر منها: شدّته وحرصه على الجهاد مع النبيّ ﷺ منذ صِغره، وصلابته في وجه الخطأ والباطل، وعدم التنحّي عن الصواب والحقّ أيّاً كان صاحبه.
الإيثار: تألّق أبو سعيد الخدريّ (رضي الله عنه) كما تألّق رِفاقه من الصحابة الأُوَل بشدّة المَحبّة للفقراء والمساكين والإنفاق عليهم، وذلك من عظيم أخلاقهم مع المحتاج والضعيف؛ فكان شديد الإيثار يُؤثر الفقراء على نفسه، كما قال -تعالى- في الصحابة: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ).
العفّة والحياء: كان أبو سعيد (رضي الله عنه) عفيفاً ذا شِيَمٍ وعزّة نفسٍ وعِفّةٍ، تأبى روحه الطاهرة إلّا العفاف.
النُّصرة: حاز الصحابيّ أبو سعيد الخدريّ (رضي الله عنه) على مكانةٍ مرموقةٍ؛ فهو أنصاريّ، وقد ورد ثناء النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- ومدحه للأنصار في كثيرٍ من الأحاديث النبويّة الشريفة، وهو بذاته يروي عن المصطفى ﷺ أحاديث في فضل الأنصار؛ إذ قال: (لا يُبْغِضُ الأنْصارَ رَجُلٌ يُؤْمِنُ باللَّهِ والْيَومِ الآخِرِ).
عِلمه (رضي الله عنه):
عُرِف عن أبي سعيد (رضي الله عنه) بزوغه في جانب الفقه، حتى أنّ مُترجِميه وصفوه بذلك الوصف قائلين بفقهه الواسع من عِدّة جوانبٍ، كالإفتاء، وهذا الجانب في شخصيّته العلميّة المُتميّزة طغى على أكثر جوانب شخصيّته العلميّة، فقد تميّز بفقهه ونُبله، وعظيم منزلته في العلم عامّةً، وفي الفقه خاصّةً فهو الجهبذ الفذ الذي تربى في مدرسة النبوة تربية نقية، فكان من المبرزين في مجالات شتى، فقد جاهد وحدث وعلم وأفتى وفسر، وأوقف حياته كلها على العلم والتعلم، والفقه والاجتهاد، فكان هذا العالم الفارس البارع من صغار الصحابة الأحباب، ثم من علمائهم ومعلميهم وفقهائهم ومحدثيهم الأعلام، يعلم الناس ويحتفي بطلاب العلم ومحبي الحديث، وهو وثلة من العلماءيفتون في المدينة المنورة، ويحدثون عن الصادق المصدوق، إذ كان من أصحاب الألوف في الرواية، ومن الذين صارت لهم الفتوى في زمانه وهو من أفاضل الأنصار وساداتهم وروي أنه لم يكن أحد من أحداث الصحابة أفقه منه، مشهور بين الصحابة ومعدود من أهل الصفة محباًللفقراء صابراً محتسباُ فقيهاً جليلاً، من الذين يقتدى بهم بحق بعد النبي.
يقول عنه ابن الأثير: (من مشهوري الصحابة وفضلائهم وهو من المكثرين من الرواية عنه)، وقال عنه الخطيب البغدادي: ( كان من أفاضل الصحابة وحفظ عن رسول الله حديثاً كثيراً)، وقال عنه الإمام الذهبي: (حدث عن النبي فأكثر وطاب)، قال النووي أيضاً: (روي لأبي سعيد عن النبي ألف حديث ومئة وسبعون حديثاً)، وقد تبوأ (رضي الله عنه) منزلة رفيعة بين علماء الصحابة وفقهائهم ومفتيهم، وقد شهد له بالفقه الأكابر من علماء التابعين وغيرهم، فقد جاء عن حنظلة بن أبي سفيان عن أشياخه قالوا: (لم يكن أحد من أحداث أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أفقه من أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه)، إذ كان سيدنا أبو سعيد ممن يفتي في عهد الخلفاء الراشدين، مع ثلة من علماء الصحابة، بل إن أبا سعيد قد صارت إليه الفتوى بعد وفاة عثمان بن عفان (رضي الله عنه)، فله نظرة بعيدة في أمور الفقه ومجالاته، منها أنه كان يرى أن يعتمد المتعلم والمتفقه على الحفظ دون الكتابة أو التدوين، فكان يأمر طلابه بقوله: خذوا عنا كما أخذنا عن رسول الله، وكان يأمر أصحابه بالإكثار من مذاكرة العلم والحديث، ويقول لهم: تحدثوا فإن الحديث يذكر بالحديث، وكان (رضي الله عنه) ذكياً محباً للعلم وحريصاً عليه، استقى ذلك من طول الصحبة النبوية المباركة في المرحلة النبوية، وهذه العوامل ساعدته على الحفظ والفهم والاستيعاب، وكان متفرغاً للعلم عمن يكبره من الأنصار الذين شغلتهم مسؤوليات الحياة والجهاد عن متابعة العلم، كما وقد اشتهر في فهمه لكثير من آيات القرآن الكريم وأحكامه وأسباب نزوله، وله في كتب التفسير آثار ناصعة تدل على فهمه الكامل للكتاب العزيز وتشير إلى إصابته للمعاني واستيعابه للمفردات القرآنية وربطها بالسياق العام للآيات.
جِهاده (رضي الله عنه):
برزت عزيمة أبي سعيدٍ الخدريّ (رضي الله عنه)، وشجاعته منذ صِغره؛ فقد عَرض نفسه على الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- راغباً في الجهاد مع المجاهدين، وهو ابن ثلاث عشرة سنةً، فلم تمنعه حداثة سِنّه ونعومة ظِفره من أن يكون رِدءاً للرسول -صلّى الله عليه وسلّم-، وناصراً لدين الإسلام، وتلك هي التربية الإيمانيّة التي رُبِّيَ عليها الصحابة (رضي الله عنهم) منذ بداية عهدهم بالإسلام، إلّا أنّ النبي ﷺ رَدّه لصِغَر سِنّه، ويكشف هذا الموقف حُسن تربية الأنصار لأبنائهم على الوفاء بالبيعة للنبي عليه السلام بأنْ ينصروه، ويبذلوا في سبيل ذلك أنفسهم وأموالهم، كما يؤكّد على عمق الإيمان الذي سكن قلوبهم؛ فظهرت آثاره على مسارعتهم لإجابة منادي الجهاد، دون أنْ يفكّر أحدهم بالتّراخي أو التّخلف عن جماعة المسلمين، خاض أبو سعيد الخدريّ (رضي الله عنه) الغزوات كلّها منذ أن قوِيَ عُوده في أحضان الإسلام، وغدا رجلاً كباقي الرجال؛ قويّاً وشجاعاً ورابطَ الجأش، ومُتحلِّياً بالصبر والأناة، حيث ورد ذلك في الحديث: (سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ، وَقَدْ غَزَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اثِنْتَيْ عَشْرَةَ غَزْوَةً)، وفيما يأتي موجزٌ عن جهاده (رضي الله عنه) في الغزوات:
غزوة بني المصطلق: شَهِدَها أبو سعيد الخدريّ (رضي الله عنه)، وكانت سنة خمسٍ للهجرة.
غزوة الخندق: شَهِدَها أبو سعيد الخدريّ (رضي الله عنه)، وقد روى بعض مشاهدها، حيث النبيَّ ﷺ يحفر الخندق مع أصحابه (رضي الله عنه)، والتراب على صدره الشريف، وصلّوا يومئذٍ صلاة الظُّهر، ثمّ أقام بلال للعصر، ثمّ للمغرب ثمّ للعشاء، وكان ذلك قبل نزول صلاة الخوف.
غزوة بني قريظة: شَهِدَها أبو سعيد (رضي الله عنه)، وحدّث عمّا جرى في نهايتها؛ من استشهاد سعد بن معاذ (رضي الله عنه).
غزوة الحديبية: شَهِدَها أبو سعيد (رضي الله عنه)، وروى شهودَه فيها. غزوة مؤتة: شَهِدَها أبو سعيد (رضي الله عنه)، وروى عن عودة جيش خالد بن الوليد (رضي الله عنه).
فتح مكّة: روى أبو سعيد (رضي الله عنه) ما كان فيها من أمر النبيّ ﷺ للناس بالفِطْر: (إنَّكُمْ مُصَبِّحُو عَدُوِّكُمْ، وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ، فأفْطِرُوا).
غزوة حُنين: شَهِدَها أبو سعيد (رضي الله عنه)، وذكر عِدّة مواقف، منها حديث ذي خويصرة الذي اعترض النبيّ ﷺ في قِسمة الغنائم بعد الغزو.
غزوة تبوك: حضرها أبو سعيد (رضي الله عنه)، وحدّث عن مواقف شهدها، منها: المرور بالحِجر، وحديث السحابة، وعدد النفر الذين غدروا بالنبيّ ﷺ .
وفاته (رضي الله عنه):
أوصى أبو سعيد الخدريّ (رضي الله عنه) ابنه عبد الرحمن قبل وفاته أن يدفنَه في مكانٍ يقع أقصى البقيع، وحين تُوفِّي يوم الجمعة أنفذَ ابنُه عبد الرحمن وصيَّته، وكانت وفاته في المدينة، إلّا أنّه اختُلِف في سنة وفاته (رضي الله عنه)؛ فقال الواقديّ وجماعةٌ إنّه تُوفِّي سنة أربعٍ وسبعين، وذُكِر عن ابن المدينيّ قولَان في وفاته؛ الأوّل: إنّه تُوفِّي سنة ثلاثٍ وستّين، والثاني: إنّه تُوفِّي بعد حادثة الحَرّة بسَنةٍ، وقِيل إنّه مات سنة أربعٍ وسبعين، وقِيل أيضاً إنّه تُوفِّي سنة أربعٍ وستّين، وقال المدائني إنّه مات سنة ثلاثٍ وستّين، وذكر العسكري أنّه مات سنةَ خمسٍ وستّين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.