لا شكّ أنّ مرحلة الطفولة هي مرحلةٌ مفصلية في حياة المرء، ولعلّ ما يُنمُّ عن ذلك هو أنّ الإنسان كلما مضى في درب الحياة إلّا وباغتته لسعات الحنين إلى ما مضى وانقضى، فَتَشرعُ ذاكرته في استدعاء سيلٍ هائلٍ من الذكريات بلا انتقاء مولِّدة إمّا حفنةً من مشاعر الشجن أو كتلةً من الحبور. والطفولة لا تكتفي بأنْ تحتلّ ملامحها مساحةً مهمّة في الذاكرة فحسب، بل إنّها قد تمارس تأثيرًا واضحًا على المرء في دنياه، وقد تجعله ينزاح عن المسار الذي يريد سلكه والمضي فيه إذ عَجَزَ عن مجالدة الماضي وما يتمخض عنه؛ ومن ثَمّ فإنّ مرحلة الطفولة إنْ لم تكن مرحلةً مكتظّة بالعطف والحدب، عامرةً بالحرية، يغلب عليها الحوار والاستجابة إلى الأسئلة التي تَنهال على الطّفل كشلالٍ هادر، وإن لم تتم مُسايرته بِحُنوّ بالغٍ فإنّ ذلك سيؤدي إلى أوخم العواقب، وسينتج عن كلّ ذلك شخصيةً مضطربة تَنخُرها التشوهات. وبما أنّ الطفولة والذاكرة مترادفان، فقد أولى لهما الدكتور عبد الله حامد الزمَّاي عنايةً كبيرة، وجعلهما مدماكين أساسيين في روايته الأولى، التي صدرت عن دار رشم السعودية خلال السنة الجارية وتقع في 110 صفحات من القطع المتوسط، والمكنّاة بـ: "ج".
منذ الصفحة الأولى يُورّط الرّوائي عبد الله الزماي قارئه، ويَشُدَّهُ، نظرًا إلى اتكائه على حيلة سردية تَتَمَكَّنُ في استخدام العبارات القصيرة التي كانت في غاية التكثيف والدقة والاختزال. لقد بدأ نصه هذا بنسقٍ سرديٍّ متسارع، ولم يقدم أيّ مقدماتٍ قد تُشي بموضوع النص وقضيته، وحتى العنوان باعتباره الإكلِيشِ الأول لقراءة النّص كان عنوانًا رمزيًا وغامضًا، ومن ثَمَّ يُجبر القارئ على مواصلة قضم الصفحات بتلهفٍ جَلِيٍّ قصد معرفة ما ينضح به هذا النّص، ويتفاجأ القارئ فيما بعد بأنّ السارد ليس واحدًا، بل يَتَنَاوَبُ الأخوان عبد الله ومحمد على سرد حكايتهما، ليبيّن صاحب الرّواية مدى تشبُّعه بتقنيات الرّواية الحديثة-الجديدة التي تبنّت سمات تجافي خواص الرواية الكلاسيكية وتخلّت عن "البطل" الإشكالي الذي ينفردُ بالسّرد ويهيمن على أحداث الرّواية فاسحًا المجال لشخصيات عديدة تقول كلمتها وتبوح بما يخالجها، وهذا يندرج ضمن ما سمّاه باختين بـ "الرواية البوليفونية-متعددة الأصوات" التي تجعل مساحة جميع الشخوص متساوية وعادلة.
وتجدر الإشارة هنا أنّ الروائي التشيكي فرانز كافكا كان أوَّلَ من استطاع الانفكاك عن البطل الإشكالي، وهمّشه، في حين أنّه قام بضخّ الحياة في جميع الشخوص بشكلٍ متساوٍ إلى حدٍّ ما، ومنبع هذا التحول الذي قام به كافكا راجعٌ إلى تركيز الرّواية الجديدة على "تغييب الذات والانكباب بدلًا من ذلك على المقولات الفكريَّة" (للاستزادة في هذه النقطة يُنظر: ميلود الهرمودي،
الدينامية الثّقافية في الخطاب الرّوائي لعبد الله العروي، 2021، ص28). علاوة على ذلك يُستشفُّ في رواية "ج" أنّ صاحبها يَعتمدُ على الغوص في الذاكرة محاولًا امتحانها، وساعيًا إلى استجلاء تأثيرها على النفسية، وهذا النوع من الاشتغال الواعي يجعل الكاتب يبتدعُ شخوصًا قريبة من "الشخصيات المركبة"؛ إذ يتلافى الوصف الفيزيقي المبالغ فيه الذي كان مدماكًا أساسيًا من مداميك الرّواية التقليدية، ويتوغلُ، في المقابل، في نفسية الشخصية مبرزًا اعتلالاتها والشواغل التي استبدت بها وهدَّتها، وهذا يُتيحُ له مساحةً أوسع للقفز على أحابيل اللغة والسرد والنزوع إلى الترميز والإلغاز والغموض؛ إذ أنّ الاشتغال على الشخصية المركبة يقتضي أولًا الوعي بهمومها ومعرفة الإعضالات التي تستوقفها، وثانيًا أن يكون الكاتب ملمًا بالتحليل النفسي وعارفًا بانعكاسات تلك الهموم وعقابيلها، وواعيًا بالقصدية التي يَتَغَيّاها من خلال نصه والتي لا تظهر بشكلٍ مباشر (الغاية هي الإظهار لا الإخبار)، وكل هذا قد توفر في روايةٍ قصيرة التي تظهر أنّ كاتبها متمكّنٌ من حرفة السرد بلا مُدافِعة.
لعل الأغرب في هذا النّص هو أنّ عبد الله الزماي يُحرجُ القارئ؛ ليس لكونه يفرضُ عليه القراءةَ بتركيز وتروٍ كبيرين حتى لا ينسل خيط السرد من يديه فَيَتِيهَ في دواليب أخرى، بل لأنه يجعل القارئ غير قادرٍ على التمييز بين الأخوين محمد وعبد الله اللذين سردا الأحداث بنَفَسٍ متشابه، وبإيقاعٍ متشاكل. لقد احتفى الدكتور عبد الله الزماي بالطفولة في هذا النص، أو مرحلة البراءة –"الجهل"، ومجّد الذاكرة التي تختزنُ سيلًا هائلًا من الذكريات يستحضرُ عبرها الساردان علاقتهما الفريدة بأمهما، ويستذكران الأمكنة التي رتعا فيها، ويبوحان بسيرتهما في اكتشاف العالم تدريجيًا بعدما ظنّا في وقتٍ ولَّى أنّ العالم يُختزلُ في بيتهما فقط، لكن مرض الجدة، على سبيل التمثيل لا الحصر، جعلهما يكتشفان أنّ هنالك مدينة بها مستشفى… إلخ.
إنّ هذا النّص سيوقظ الحنين في نفسية القارئ الذي عاصر العقد الأخير من القرن المنصرم بلا شك؛ إذ سيُرغمه على تَذَكُّر أيام الطفولة وشغبها، الألعاب التي تُختلق من اللاشيء، البراءة في التفكير وفي النّظر إلى العالم، الصدق الأخوي ونبل السجية حيث إنّ تصرفات محمد السيئة والفجّة تجاه أخيه والتي رواها بعناية معتنيًا بالتفاصيل (هيمنته على كلّ شيء، حظوته عند أبيه، انتصاراته المتواصلة على عبد الله في المصارعة بلا رأفة، الاعتداء عليه وضربه… إلخ)، قد تجعل القارئ يمقتهُ، لكن حينما يروي محمد سيرته مع عبد الله ويبوح بصدقٍ بائن وجليّ بمشاعره تجاه أخيه، وكيف كان يذود عنهُ كلّما همّ طالبٌ بالاعتداء على عبد الله فَتَتَغيَّر نظرة القارئ إليه بشكلٍ مفاجئ.
يظهر أيضًا في هذا النّص أنّ عبد الله الزماي يؤمن بأنّ اللغة هي مجرد أداة لنقل ما يُساور خلد الكاتب، ووظيفتها هي مساعدة الكاتب في بلورة أفكاره، وليست هدفًا يجعله مُهتَجِسًا بها ليقع في مصيدة الإسراف اللغوي والحشو والإطناب الذي يُصيبُ النّص بالترهل، ويجعل الروائي يتيه عن القضية وينصب اهتمامه على الاستعراض اللغوي. كانت اللغة مقتصدة في الوصف، منسابة في السرد ومكثفة بشكلٍ واضح، دون أن يقع الكاتب في فخّ اللغة التقريرية المباشرة التي غزت حفنةً من روايات عصرنا الضنين هذا؛ إذ كان إيقاع اللغة واحدًا طيلة صفحات الرواية حيث جنح المؤلف إلى الكتابة بلغةٍ واضحة ويسيرة الفهم لكنها في نفس الوقت مشبَّعةً بأناقة العبارة وشقشقة اللفظ ومكتّظةً بالعبارات الرمزية والملتبسة وكأنه بذلك يمنح مساحة للمتلقّي لكي يؤوِّل ويملأ البياضات ويقرأ النّص قراءاتٍ متعددة، وهذا نابعٌ من وعيه بالعملية التأويلية التي ينزع إليها القارئ ويقرأ النص بهامشٍ من الحرية في تطبيق لنظرية الفيلسوف الفرنسي رولان بارت؛ وأعني: "موت المؤلف."
السؤال الذي هَدَّ ذهني ولم أفلح في الإجابة عليه إلى حد الآن: كيف تمكّن هذا الكاتب من أنْ يقول كلّ شيء وينط برشاقة على قضايا عديدة في رواية قصيرةٍ لا تتجاوز مائة وعشر صفحات؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.