بقدر ما أوضحت الحرب الإجرامية التي يشنها الاحتلال بدعم الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها على الشعب الفلسطيني، حالة الضعف التي وصل إليها النظام العربي الإقليمي بقدر ما أكدت هذه الأحداث مدى الحاجة العربية، إلى نظام قوي فعال قادر على الفعل والتأثير، فقد بيَّنت الهشاشة العربية، و الحرب الإجرامية على غزة، مدى ضعف القدرات العربية على الفعل، إذ تم دحض كل المزاعم والبروباغندا القومية التي تدعي بكل فجاجة بأن الدول العربية منفردة تستطيع أن تؤثر وتحافظ على مصالحها بدرجة أكبر من قدرتها على تحقيق ذلك من خلال النظام العربي، فها هو الواقع يكشف عن عدم قدرة الدول العربية القطرية على القيام بأي فعل يُعتَد به، ليس لمساندة الشعب الفلسطيني في محنته فحسب، ولكن في الحفاظ على مصالحها منفردة التي صارت موضع التهديد أو حتى التواطؤ والتآمر، كما أظهرت الحرب زيف الفصل المتعسف بين الأمن القومي العربي والأمن الوطني للدول العربية، فواقع الحال يؤكد أن هناك ارتباطا وثيقا لا يمكن تجاهله من جانب أي صانع قرار سياسي رشيد عاقل بين الأمن الوطني للدول العربية منفردة، والأمن القومي العربي ككل، فالتهديد الذي يتعرض له الإنسان العربي والوجود العربي يشمل الجميع، ولا يفرق بين عربي وعربي على امتداد الوطن العربي كله، فلا يوجد قرار وطني مستقل على أي مستوى قُطري لدولة عربية، فالكل على ما يبدو محاصر بدليل حالة الشلل شبه التام القائمة على مستوى القرار السياسي العربي بشكل عام، وإن شئنا الدقة لقلنا حالة اللاقرار العربي الراهنة، كذلك أوضحت الحرب للجميع حقيقة سياسية هامة من حقائق السياسة العربية والتي كان البعض يحاول تجاهلها في الفترة الأخيرة وهي اتساع الشرخ بين الأنظمة العربية الرسمية وشعوبها مما يؤكد تآكل شرعية النظم السياسية العربية المتآكلة بالأساس، والتي تفرض نفسها على شعوبها من خلال القمع والإخضاع دون استثناء. من ناحية أخرى أثبتت الحرب عدم الفاعلية العربية في جميع الملفات، ليس وليد اليوم، إنما هو تراكم لممارسات خاطئة وفساد مستشَري في نظم الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد.
هذا الوهن، عاجلاً أم آجلاً ربما سيضع الشعوب العربية لأن تتحرك في كل اتجاه بحثًا عن سبيل لتقديم العون والمساعدة وأداء الواجب القومي تجاه إخوتنا وأهلنا الذين يتعرضون الآن لحرب إبادة منظمة أمام أعين ما يسمى بالعالم المتحضر، والذي أثبتت الأحداث أن القيم والمبادئ التي يروج لها هذا العالم المتحضر يخضع هو الآخر لضغوط القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية والإعلامية.
رغم ذلك، ما زلت أؤمن بوجود قوى شريفة مؤمنة بمبادئ الحق والعدل والحرية وحقوق الإنسان إلا أنها لم تصل بعد إلى مرحلة القدرة على التأثير القوي في القرار السياسي الدولي، لذلك، فالأمر يستدعي وقفة مع النفس أولاً ومع الآخرين ثانيًا.
لا بد من التخلص من بعض الأوهام السياسية التي بنيت على أساسها السياسة العربية و أوصلتنا إلى هذا المأزق المشؤوم الخانق، وذلك كمقدمة للخروج من ذلك النفق المظلم، وأول هذه الأوهام يتعلق تحديدًا بالولايات المتحدة الأمريكية التي تحول موقفها من موقع الوسيط المنحاز للاحتلال إلى موقف الشريك الكامل للاحتلال والراعي الرسمي للإبادة التي تستمر إلى اليوم على الأراضي الفلسطينية.
وبالرغم من أن الولايات المتحدة برهنت على تحولها الى هذا الموقف الجديد قولاً وفعلاً، إلا أن أغلب الدول العربية تراها واشنطن حتى الآن على أنها وسيط منحاز فحسب، وإزاء هذا الإصرار العربي لا تجد الولايات المتحدة ما يمنعها من ممارسة الخداع والتضليل للجانب العربي، من أجل تعميق الأزمة العربية.
إن استمرار حالة التيه و الشلل العربي القائمة، لا تصب في مصلحة أي من الدول العربية، في المقابل يضمن استمرار مصالح الإمبراطورية الأمريكية ومستعمرتها الإسرائيلية في أراضينا العربية، التي تسعى لضمان تأخرنا وتشظي دولنا، إذ لا يخفى على أحد ممارسة واشنطن التي لا تكلفها سوى بعض التصريحات الغامضة أو الوعود الأكثر غموضًا التي سرعان ما يتم التراجع عنها، أو إصدار قرارات من الأمم المتحدة غير ملزمة ولا يمكن تنفيذها في ظل المعطيات الراهنة.
إن الإمبراطورية الأمريكية لا تسعى لضمان حماية أحد، بل كل ما تعمل عليه هو زيادة حدة حالة الشك وعدم اليقين التي يعيشها صانع القرار السياسي العربي، لتستمر حالة اللّا قرار لأطول زمن ممكن، ولا مانع في هذا الإطار من استخدام كافة أساليب الحرب النفسية ضد العرب لإشعارهم بالعجز والهزيمة المسبقة أو لدفعهم إلى اتخاذ قرارات خاطئة في وقت غير ملائم، فهذا كله يصب في المحصلة النهائية في صالح إسرائيل ومصالح الولايات المتحدة بينما يتآكل الحق العربي.
إن ما تسعى إليه إسرائيل المأزومة هو زيادة إرباك الجانب العربي وفرض حالة من التشظي بالتهديد لكل من يحاول الخروج عن طوع الإمبراطورية الأمريكية. لذلك، يجب على الدول العربية أن تعي ضرورة التخلص من الهيمنة الأمريكية، ومن أوهامها التي تقول بأن العرب خياراتهم محدودة في ظل المعطيات الراهنة، وأنهم لا يستطيعون الخروج من هذا المأزق إلا من خلال خيار واحد هو الاستسلام لمطالب واشنطن وتل أبيب لتجنب الدمار، فمن هذا الذي يستطيع أن يواجه الإمبراطورية اليوم وحليفتها؟
تغزل الإمبراطورية الأمريكية خيوط اليأس والإحباط حول أرواحنا، يستغلون أرضنا في صراع دائم، مدركين أن قوة الاحتلال تستمد من الضعف والتشظي العربي. لكن مع حلول السابع من أكتوبر، بزغ فجر فرصة لتخلص العرب والمنطقة كلها من هذه الهيمنة والقيود الإمبراطورية، فرغم أنهار الدم التي أغرقت غزتنا وتعقد المشهد مع مرور كل يوم، يظل هناك فرصة لكتابة تاريخ جديد شجاع لمنطقتنا و لأراضينا. لكن يبقى السؤال معلقًا في سماء الغد، هل سيكون السابع من أكتوبر نقطة تحول تاريخية؟ هل ستتمكن منطقتنا من تحويل جراحها إلى جسور تمتد نحو الآمال؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.