منذ صعود الغرب بقيادة أوروبا بعد الثورة الصناعية وبدء التراجع في العالم الإسلامي بسبب ضعف الخلافة العثمانية بدأت أوروبا شرقيها متمثلًا في روسيا والمجر وغربيها بقيادة إنجلترا وفرنسا في قضم أطراف الخلافة، وكان المسمار الذي استُخدم كثيرًا للتدخل في الشؤون الداخلية للخلافة ولتأليب الأقليات على الدولة وكذلك تأليب الشباب الغر الذي فُتِن بنموذج الحرية الغربي، المطالبة بتطبيق النموذج "الديمقراطي الغربي"، بدءًا بتداول السلطة (عبر) انتخابات تعددية صُوِّرت حينها على أنها الأسلوب الأمثل للتداول السلمي للسلطة والذي يتيح للشعوب أن تختار حكامها بنفسها حتى تحقق الغاية من الديمقراطية، وهي حكم الشعب بالشعب لصالح الشعب!
كانت التأثر بالصعود الغربي الفكرة التي أشعلت نيران التمرد ضد الدولة العثمانية من بعض أبنائها، وكانت الديمقراطية الغربية حينها حُلمًا صاخبًا راود أحلام الكثيرين، والذي آل في النهاية إلى كابوس تحققت فيه رغبة الغرب بتمزيق الخلافة التي كانت تجمع المسلمين عربًا وعجمًا في دولة واحدة يتنقل أبناؤها وغيرهم بسلاسة في أرجائها الواسعة دون الحاجة لجواز سفر أو تأشيرة تُمنَح أو تُمنع بين هذا الإقليم وغيره.
كان هذا النموذج الذي تبنَّت الدعوة إليه وحاكت المؤامرات من أجله دول الاستعمار القديم، إنجلترا وفرنسا، ثم حملت الرايه من بعهدهم الإمبراطورية الأمريكية ذلك المارد الأميركي الذي خرج من القمقم في الحرب العالمية الثانية مدشِّنًا عهد الديمقراطية العالمية بشكلها الغربي بتفجير القنابل النووية!
والآن بعد ما يربو على قرنين من التبشير بالديمقراطية في دول العالم بأكمله الإسلامي منه وغيرها، وبعد انفجار ثورة المعلومات وظهور وسائل التواصل الاجتماعي التي أسهمت في كشف الحقائق عن طريق الصورة المباشرة وبعد انكشاف الكثير من الحقائق عن سياسات الدول والنظم التي تتبعها ومنها الديمقراطية، يظهر السؤال: هل الديمقراطية الغربية فعلًا هي الوسيلة الأفضل لتداول السلطة؟ وهل الغاية منها حكم الشعب بالشعب لصالح الشعب؟
الموضوع شائك وطويل ويحتاج للغوص فيه إفراد مقالات عدة ربما نعود إليها في المستقبل، ولكن للإجابة العاجلة عن هذين السؤالين وغيرهما مما يستتبعه المشهد والوقائع الحالية يمكننا أن نأخذ انسحاب الرئيس الأميركي الحالي، جو بايدن، من الانتخابات الرئاسية القادمة نموذجًا.
فاز جو بايدن على ترامب في انتخابات عام 2020 وكان من أهم الأسباب الرئيسية هو خوف قطاع مهم من الأميركيين من الانقسام وربما الحرب الأهلية التي كان ترامب يقود إليها المجتمع الأميركي ولم يكن بسبب موضوعي خاص بشخصية بايدن فهو وإن كان صاحب خبرة طويلة إلا أنه بدون كاريزما خاصة وليس له إنجازات سياسية مهمة، يمكن القول باختصار أنه كان إحدى المنتجات التي تنتجها تروس الآلة الحزبية الأميركية والتي يقوم على رعايتها "صانعو الملوك" من أصحاب رؤوس الأموال في كل حزب.
خلال فترته الرئاسية الأولى، ظهر للعيان انحدار قدراته الذهنية بسبب عامل السن والشيخوخة، وتوالت المواقف الصادمة من خلط خلال خُطبه وأحاديثه عن شخصيات ودول، حتى وصل لفقدان التوازن والسقوط في بعض الأوقات. كما ظهرت إفادات طبية بعدم قدرته على القيام بواجبات الرئاسة.
ورغم تلك الظواهر المتكررة، لم يفكر بايدن في حق الشعب الأميركي في أن يقوده رئيس قادر على القيام بواجباته وإنما كان يفكر في (حقه أو رغبته هو) في الاستمرار رئيساً حتى نهاية مدته.
ومع بدء الحملة للانتخابات القادمة فاجأ بايدن قطاعاً مهمّاً من مؤيدي الحزب الديمقراطي ومن غيرهم برغبته الملحة في الاستمرار والترشح مجددًا!
كانت هذه -في رأيي- قمة الازدراء للشعب الأميركي الذي رأى رئيسه يتعامل وكأنه ديكتاتور من دول العالم الثالث التي يتندر عليها الغربيون وعلى رأسهم الأميركيون، وهو يحاول الاستمرار في الحكم ضد مصلحة الشعب. ثم بدأ حملته بالفعل، وأعلن أكثر من مرة أنه سيترشح لقطع الطريق على من يحاول من أعضاء الحزب دعوته للانسحاب أو يحاول الترشح أمامه، وبدا أنه يدوس بقدميه قيمة حكم الشعب بالشعب لصالح الشعب.
في ذات الوقت، كان معظم تروس الحزب الديمقراطي يؤيدون بايدن في مسعاه، ويجمعون له التبرعات رغم وضوح انهيار قدراته الذهنية والإدراكية. ثم جاءت المناظرة الشهيرة، التي أظهرت ضعفه واختلاطه بشكل واضح، وتعالت الأصوات بعدها داعية بايدن للانسحاب. لماذا؟ بالطبع حفاظًا على فرص الحزب الديمقراطي في الفوز. لعله الكثيرين ظنوا أن الدعوة للانسحاب كانت بسبب احترام الشعب وتقديم رئيس يصلح لرئاسته وحماية مصالحه، وخصوصًا بعد الانتقادات والمظاهرات التي طالته من طلاب الجامعات. لا يا سيدي، فهذا ليس واردًا في ذلك النموذج الديمقراطي الغربي.
لذلك، أصر بايدن على الاستمرار، وأعلنها واضحة بعد المناظرة أنه المرشح الديمقراطي في الانتخابات القادمة، وأنه من سبق وفاز على ترامب وسيفوز عليه مرة أخرى. إذن، لماذا انسحب بعد ذلك؟
لا أعتقد أنه استجاب لدعوات الانسحاب حرصًا منه على الديمقراطية، وأن يختار الشعب بنفسه شخصًا صالحًا للرئاسة، قادرًا على القيام بأعبائها، وإنما انسحب لأن كبار الممولين للحملة الانتخابية أوقفوا تبرعاتهم وأعلنوا أنهم أغلقوا دفتر الشيكات حتى ينسحب. كما أعلن الممثل جورج كلوني، الذي جمع له ملايين الدولارات قبلها بشهرين، أنه ألغى حفل جمع التبرعات التالي.
هنا، أدرك بايدن أن "صانعي الملوك" في الحزب تخلوا عنه، وأنه أصبح ترسًا صدئًا من تروس الآلة الحزبية التي تطحن الشعب الأميركي وتنتج له دمى مختلفة الأشكال والألوان والأجناس والأعمار أيضًا لحكمه، وهو أي الشعب الأميركي وكل شعب ديمقراطي في الحقيقة مضطر لاختيار في النهاية بين دميتين، إما فيل أو حمار، وأنه لا يملك حرية الاختيار كما يتوهم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.