مهما كانت حدة الاستهداف والتحديات التي تواجه الشعب الفلسطيني والشعوب العربية وغيرهم ممن يدافعون عن الحق الفلسطيني، فإن المسيرة نحو العدالة لن تتوقف، فالتاريخ يروي لنا كيف أن كفاح الشعوب ينتصر ولو تراكمت الهزائم. وهذا الصراع الدائر في بلادنا ليس مجرد نضال محلي بل جزء من مسرح أوسع يشمل الشرق الأوسط بأكمله، هذا الإقليم الذي طالما كان مهداً للحضارات ومحرك التحولات في العالم.
فالشرق الأوسط، بكل تاريخه الممتد منذ أن عرف الإنسان الزراعة وبدأت الحضارة كان أرضاً لولادة إمبراطوريات عظيمة، ومقبرة لحضارات أخرى لا تقل قوة، وإلى الآن ورغم ما يمر به من وهن يظل مركزًا لا يمكن إغفاله في معادلة الاستراتيجية العالمية. وفي القرن الـ21، يتجلى هذا الدور بشكل أكثر وضوحاً مع تصاعد المتغيرات فيه وتفاقم التوترات التي قد تشير إلى تحولات دراماتيكية لا في الشرق الأوسط فحسب بل في بنية النظام العالمي بأكمله.
منذ "طوفان الأقصى" في ال7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، شهدنا كيف أن تلك التغيرات في توازن القوى داخل منطقتنا لم تعد تقتصر على الصراعات الإقليمية بل تمتد لتهدد بنشوب حروب قد تغير معالم العالم كما نعرفه، فتجعل العالم كله على أهبة الاستعداد، فيبرز عدد تحالف قديم وجديد، ويتضح للعالم انشطار العالم بين إمبراطورية تحاول الحفاظ على هيمنتها بأي ثمن، وقوى صاعدة قديمة تسعى لإعادة تشكيل النظام العالمي، وهو ما يؤكد على أهمية ومحورية الشرق الأوسط في هذه المعادلة، وما فعلته المقاومة يوم 7 من أكتوبر لتغيير الكثير من أجل شعوب المنطقة، التي إذا كان هناك إرادة لدى الأنظمة لكان للشرق الأوسط شأن آخر.
في عالم ما بعد الحرب الباردة، لم تفقد الولايات المتحدة الأمريكية زمام المبادرة في السعي لتأكيد هيمنتها العالمية، حتى بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. والأداة الرئيسية في هذا السياق كانت ولا تزال حلف شمال الأطلسي (الناتو)، الذي تأسس أصلاً لمواجهة التهديد السوفيتي، وتوسع بشكل ملحوظ في التسعينيات ليشمل 32 دولة، والذي نراه اليوم في مهمته القديمة في الساحة لوقف موسكو التي عززت نفوذها في الشرق الأوسط بتدخلها المباشر في سوريا بجانب حربها مع أوكرانيا.
قبل ذلك، لم تخفِ الإمبراطورية الأمريكية إظهار سعيها لإثبات هيمنتها على العالم، فنطاق عمليات الناتو لم يقتصر على حماية المجال الأوروبي؛ فقد استغل البيت الأبيض أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 لتوسيع مسرح هيمنته إلى أفغانستان وليبيا، ومنذ عام 2021، وفي ظل التحديات الجديدة، شمل توسع الناتو تحدي النفوذ الصيني في آسيا. وفي تطور استراتيجي بارز، كشفت بريطانيا والولايات المتحدة وأستراليا عن تأسيس تحالف "أوكوس" في أكتوبر/تشرين الأول من عام 2021، الذي يتجاوز مجرد صفقة غواصات نووية ليعزز البنية التكنولوجية والعسكرية الغربية في المحيط الهادئ ضد صعود الصين.
لم تهدأ واشنطن يوماً في سعيها لترسيخ هيمنتها، حتى وهي تذهب لأكثر من جبهة، لكنه في منطقتنا قبل طوفان الأقصى، كان الاعتقاد السائد في واشنطن أن نفوذ الغرب في الشرق الأوسط مستقر، وأنه بالإمكان بناء تحالفات جديدة وتصدير مشروع الشرق الأوسط الكبير. لكن المقاومة عكست تغيرًا جذريًا في هذه النظرة، حيث نسف "طوفان الأقصى" الكثير من الخطط الغربية وأعطى فرصة لمنطقتنا لتسترجع مكانتها من أجل شعوبها، مما سيؤدي لإعادة صياغة العالم ربما بشكل أكثر عدالة.
هذه ليست مجرد قراءة رومانسية للواقع الجيوسياسي، بل تحليل يستند إلى ملاحظات ملموسة حول الديناميكيات العالمية المتغيرة. واشنطن، التي طالما سيطرت على مقاليد القوة العالمية، تواجه الآن تحديات متعددة ليس فقط على الجبهات العسكرية، بل أيضًا في المجالات الاقتصادية والسياسية. مع تصاعد النفوذ الصيني وتراجع الهيمنة الأمريكية في مناطق حيوية مثل إفريقيا وأمريكا اللاتينية، تزداد المؤشرات التي تنبئ بتغيير في توازن القوى العالمي.
هذا التحول لا يعني انهيار القوة الأمريكية بل تراجعها، وهو ما يستلزم فهمًا دقيقًا لما يمكن أن يترتب على هذه التغييرات. الواقع الجديد يطرح تساؤلات حول الفرص للقوى الصاعدة، و كيفية تعامل واشنطن مع هذا التحدي الاستراتيجي المتزايد. فالتحديات الراهنة قد تدفع واشنطن إلى اتخاذ خيارات قد تبدو متهورة في سعيها للحفاظ على هيمنتها الاستعمارية.
مثل هذه القرارات قد تشمل تصعيد النزاعات القائمة، أو حتى تفجير نزاعات جديدة، وهو ما يمكن أن يهدد باندلاع حرب عالمية ثالثة. فالوضع لا يبشر بأن الأمور ستسير بسلاسة، بل على العكس، هناك احتمالات كبيرة لحدوث توترات وأزمات إضافية تؤدي إلى تفاقم الوضع العالمي الراهن. بناءً على هذه الديناميكيات، يبدو أن السنوات القادمة ستكون حاسمة في تحديد مستقبل النظام العالمي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.