أصبحت أفكر يا أبي

عربي بوست
تم النشر: 2024/07/27 الساعة 13:16 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2024/07/27 الساعة 13:16 بتوقيت غرينتش

كان الصيف في أوله، أكاد أُجنُّ من فرحتي بنهاية العام الدراسي الذي كان يسير كالسلحفاة! أتخوف بعض الشيء من نتيجة الامتحان، ولكني أحاول تجاهل هذه المخاوف بالإمعان في اللعب واللهو.

الساعة تخطت الواحدة صباحاً، حاولت والدتي أن تجعلني أنام بالطرق كافة، إلا أنني كنت أقول لها: ولماذا أنام؟! ألم تنته الدراسة؟!

التلفزيون يعرض على قناته الثانية فيلماً أجنبياً، في الغالب فيلم رعب، جاء والدي من العمل، قال لي: ما دمت تريد أن تسهر، فهل لا يكون السهر إلا أمام التلفاز؟!

قلت له وأنا مدرك أنني لن أستطيع التغلب على حججه المحكَمة والتي يعجز أمامها الكبار: وماذا أفعل؟!
ردَّ والدي ببساطة: فكِّر.
قلت له: فيم أفكر؟!

استغرب والدي قائلاً: في شؤون حياتك يا بني، فكِّر في مستقبلك.

وبالفعل، انطفأ التلفاز وجلست أفكر فيما عساي قد أفكر فيه، إلا أن كل ما فكرت فيه وقتها أن حياتي بلا هموم، فكل شيء قد يؤرقني كنت أفضي به إلى أبي أو أمي؛ ليقوما بحله نيابة عني.

جلست مقلداً أبي الذي كان يقضي الليالي الطوال جالساً متفكراً في حل للمشاكل التي قد تعترض مسار أسرته أو تهدد مستقبل أبنائه، ولكني تساءلت في نفسي: أين إذاً أكواب الشاي والقهوة التي تعدها أمي لأبي؟ أيمكن أن يكون السر في عدم وجود أفكار تؤرق رأسي الصغير لعدم شربي الشاي والقهوة، المهم أنني لم أستغرق ربع الساعة في جلستي الفكرية العميقة إلا وكنت غارقاً في عالم الأحلام.

تذكرت الآن هذه الليلة وأنا لا أستطيع النوم من كثرة الأفكار التي أمست تؤرق رأسي باستمرار، هذا الرأس الذي أصبح لا يفتر عن التفكير؛ بل هو يحتاج إلى ما يشبه عسكري المرور؛ لكي لا تصطدم أفكاره بعضها ببعض فتتشتت وتضيع بلا جدوى، لقد كبرت يا أبي وأصبحت أفكاري تزعجني ومسؤولياتي تقضّ مضجعي.

أصبحت أعرف معنى سهر الليالي الطوال من دون النطق بكلمة واحدة عما يجول في نفسي ويعتمل في صدري، أصبحت أدرك معنى ألا تجد من تشكو له همك؛ لأنه لن يحكّ ظهرك إلا ظفرك، ولأنك لا تريد إزعاج أصدقائك بمشاكلك؛ لأن كل شخص فيهم به ما يكفيه من مشكلات، إن لم يتداركك الله بصديق يدرك تغيُّرك رغم عدم تغيُّر ملامحك.

تلك السنون التي باعدت بيني وبين تلك الليلة الصيفية السعيدة الجميلة، باعدت بيني وبين خلو البال وتحاول أن تباعد بيننا وبين براءة النفس، تلك البراءة التي تتكالب علينا الأحداث والظروف لتحاول نهشها من بين أضلعنا، إلا أننا لا مفرَّ لنا إلا الاستماتة في الدفاع عنها؛ لأن الأفضل لنا أن نموت إن فقدناها.

لقد كبرت يا أبي وعلمت أن بهذه الدنيا ظلماً تجرعنا مرارته على يد طغاة ساموا شعوبهم سوء العذاب، وعلمت أن أمتي رهينة في أيدي مثل هؤلاء الطغاة، يزجون بأبنائها في السجون والقبور، ويرمون شعوبها بالبراميل المتفجرة والأغذية الفاسدة والإعلام الفاجر، علمت أن المرابطة على ثغور المروءة والشهامة قد تكلف المرء حياته أو حريته، ولكن هل تتبقى أدنى قيمة لحياة من دون مروءة وشهامة، وهل يعد الحر حراً فعلاً لو تخلى عنهما؟!
لقد كبرت يا أبي وأصبحت أفكر وليتني ما فعلت.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
علي خيري
كاتب ومحامٍ مصري
كاتب ومحامٍ مصري
تحميل المزيد