الجنة، تلك التي تهفو إليها النفوس، مهبط الأماني، ومنتهى الأحلام، لا شك عندي أن دخولها لا يتطلب فقط كثير صيام وصلاة، فالجنة لن يدخلها إلا من يستوفي شروط الإنسانية كاملة، بل دعني أقول لك، إن الشعائر إن لم ترقّ من إنسانيتك فهي مجرد ضياع للوقت، وعذاب للنفس، فما فائدة صيام الهواجر، وقيام الليالي، وإنفاق الأموال، إن كنت في نهاية المطاف تؤيد سفاحاً يلغ في دماء شعبه، أو طاغية حول البلاد التي يحكمها إلى سجن كبير.
الإنسانية يا صديقي تدخل في باب ما وقر في القلب وصدقه العمل، فهي ليست كلاماً نظرياً مجرداً، بل هي أفعال وفي الغالب أفعال عظيمة، قد تتطلب تضحية وبذلاً وعطاء، ومن الغريب أننا مع الأيام نكتشف أننا كنا نعيش مع إخوة لنا من بني البشر، إلا أنهم لا يملكون من الإنسانية ولو قدراً بسيطاً، ولكننا لم نشعر بهذا إلا في المواقف الفارقة، التي مرت بها أوطاننا العربية في الآونة الأخيرة، بعد موجة الثورات، التي قامت بها شعوبنا الباسلة، فهذه الثورات يا صديقي كانت كاشفة وفاضحة؛ كاشفة لمقادير عظيمة من المشاعر الإنسانية تموج في صدور البعض ولكن لم تتَح لها الفرصة لتظهر إلا في تلك المواقف الفارقة التي قد حدثتك عنها، على الرغم من أن مظهرهم وسلوكهم لم يكن ينبئك بذلك أبداً، فهناك أشخاص كان آخر ما ينتظر منهم هو أخذ مواقف حاسمة في مواجهة الظلم والظالمين، إلا أنهم أبوا إلا أن يعلمونا أن الإنسانية ليست بالمظاهر.
وكانت فاضحة للبعض الآخر الذي صدمنا بأن نفسه ليست إلا صحراء قاحلة خربة لا تكاد تجد فيها قطرة واحدة من الإنسانية، على الرغم من أنهم صدعوا أدمغتنا بالحديث عن الشفقة والرحمة والإنسانية، وكانت صدمتنا فيهم عظيمة، عندما أيَّدوا إراقة دماء الناس لمجرد أنهم خالفوهم في الرأي.
ولكن ما هي الإنسانية؟ وما هو معيار توافرها من عدمه؟ رأيي الشخصي الذي من كامل حقك أن تضرب به عرض الحائط، أن الحد الفاصل بين الإنسان وغيره من أدعياء الإنسانية يكمن في مدى احترامه لحياة مخالفيه في الرأي، ومدى رحمته بهم، فالأمر الذي استشرى في أوطاننا العربية هو استحلال القتل وتبريره لمجرد الخلاف في الرأي، والذي كانوا قد علمونا في المدارس أنه من المفترض أن لا يفسد للود قضية.
عندما سمعت حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي قال فيه: "بينما كلب يطيف بركية كاد يقتله العطش؛ إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل فنزعت موقها فسقته، فغفر لها به" حديث صحيح، ذهلت من التأكيد الذي يشع منه على أهمية معاني الرحمة، التي تعد من أهم المشاعر الإنسانية، هذا الحديث الشريف يتحدث عن امرأة بغي، تمتهن التجارة بجسدها، دخلت الجنة لأنها سقت كلباً، لا أريدك أن تظن أنني أهوّن هنا من أهمية الشعائر -معاذ الله- ولكني يا صديقي أؤكد أنها لا تجدي إطلاقاً ما دامت لم ترتقِ بك إلى مرتبة الإنسانية.
لذلك فأنا على يقين من أن الجنة لن يدخلها إلا إنسان.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.