هناك مفهوم هام في العلوم الإنسانية يعرف بـ "العامل المقزز" أو Yuck Factor وكان الفيلسوف البريطاني ليون كاس هو أول من تكلم عنه. يشير هذا المصطلح إلى حالة الاشمئزاز أو الرفض الفوري تجاه شيء معين دون وجود أسباب منطقية واضحة. استخدم كاس هذا المصطلح للإشارة إلى ردود الفعل الغريزية السلبية التي يشعر بها الناس تجاه بعض الإجراءات أو الممارسات البيولوجية أو التكنولوجية الحديثة مثل استنساخ الكائنات الحية والهندسة الوراثية. وقد كان هذا المصطلح عاملًا مهمًا في التسويق لوجهات النظر المعادية للأبحاث البيولوجية المتعلقة بالاستنساخ البشري.
الظاهرة، التي تبدو بسيطة للوهلة الأولى، تمتد جذورها عميقًا في سلوكياتنا وتفاعلاتنا الاجتماعية، وتؤثر بشكل كبير في السياقات السياسية والاجتماعية المعاصرة. ومع مرور الوقت، اكتشف أنه بالإمكان لـ"العامل المقزز" أن يكون له تأثير كبير لدى الشعوب بطرق مختلفة تجعلهم يتقززون من حزب أو جماعة معينة، وأحيانًا تستخدمه الشركات ضد منتج منافس. ويمكن تحقيق هذا التأثير اصطناعياً من خلال وسائل الإعلام والدعاية المكثفة عبر بعض الأساليب النفسية والاجتماعية.
تلعب وسائل الإعلام دورًا محوريًا في توجيه وصياغة هذا العامل. فهي قادرة على تعزيز وترسيخ الصور السلبية في أذهان الجماهير، مما يدفعهم إلى النفور من فكرة معينة أو مجموعة محددة. على سبيل المثال، ففي مصر خلال عام 2013 وما بعدها، استخدم النظام الحاكم وسائل الإعلام بشكل مكثف لنشر صور وأخبار تُظهر المعارضة في أسوأ حالاتها، من خلال تسليط الضوء بشكل مكثف على الأحداث العنيفة والفوضوية التي صاحبت الاحتجاجات والتظاهرات.
استخدام الإعلام في التأثير على العامل المقزز في مصر
منذ الثورة المصرية في عام 2011، شهدت مصر استخدامًا مكثفًا لوسائل الإعلام والدعاية للتأثير على الرأي العام وخلق حالة من الاشمئزاز والنفور من الثورة والجماعات والكيانات المشاركة فيها. التكرار المستمر لهذه الرسائل السلبية يصنع في الوعي الجمعي صورة ذهنية ترتبط بالرفض والنفور. تُستخدم الرسائل التي تحمل نبرة سلبية لتثبيت مفاهيم مثل الفشل والخيانة بشكل يُشكل في النهاية حاجزًا نفسيًا يصعب تجاوزه. السلطات المصرية، في هذا السياق، لم يتردد في استغلال هذه الأساليب لتقويض صورة معارضيه، مستخدمًا الشخصيات العامة والمؤثرين في المجتمع لإعطاء وزن أكبر لهذه الرسائل.
وبالطبع لم تكن السلطات المصرية أول من يستخدم تلك الأساليب، ففي الصين على سبيل المثال، خلال الثورة الثقافية في الستينيات، استخدمت الحكومة الصينية بقيادة ماو تسي تونغ وسائل الإعلام والدعاية لخلق حالة من النفور والرفض تجاه المثقفين والأشخاص الذين اعتبرتهم مناهضين للثورة. تم تدمير الصور العامة لهؤلاء الأفراد ووصفهم بأنهم أعداء للدولة وللشعب الصيني.
استخدام الإعلام الحكومي والدعاية السلبية
وبالرجوع لتطبيق حي لتلك الأساليب، يمكن أن نعود للحالة المصرية، فبعد اندلاع الثورة في يناير 2011، بدأت وسائل الإعلام الحكومية حملة دعائية واسعة لتشويه صورة المتظاهرين. أحد الأساليب المستخدمة كانت تصوير المتظاهرين كخونة وعملاء لقوى أجنبية، حيث تم بث مقابلات مع "متظاهرين" مجهولي الهوية يدعون أنهم تلقوا تدريبًا في إسرائيل، وزعموا أيضًا وجود عناصر أجنبية بين صفوف المتظاهرين. كذلك استخدموا قصصًا ملفقة لنشر حالة الاشمئزاز ضد المتظاهرين مثل الزعم بأن المتظاهرين يتلقون وجبات طعام من مطاعم كنتاكي وأن خيام المتظاهرين يتم فيها ممارسات غير لائقة. تلك الاستراتيجية كانت الهدف منها حجب ما يحدث في الميدان عن أعين الشعب، وتصدير صورة ضبابية بشكل عام عن طريق تشويه صورة المتظاهرين والثورة في العقل المجتمعي المصري.
التكرار المستمر للرسائل السلبية
اليوم، يمكن ملاحظة ذلك التكرار المستمر لهذه الرسائل وتأثيرها الكبير على استمالة الرأي العام. من خلال استمرار نشر صور وفيديوهات من الثورة والفوضى التي تلتها لتذكير الناس بهذه الفترة واستمرار تغذية عقولهم بمشاعر الاشمئزاز من الثورة والتغيير. فداومت السلطات المصرية بكامل أجهزتها الإعلامية على ذكر هذه الفترة بكلمات مثل الفوضى وانعدام الأمن والتخريب ليس مجرد صدفة، بل هي سياسة منهجية لتأصيل مشاعر النفور من أي تغيير قد يفكر فيه المجتمع الآن حتى بعد ما آلت إليه الأوضاع في مصر من تدهور غير مسبوق على جميع المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
استغلال الأزمات لتعزيز المشاعر السلبية
ففي أوقات الأزمات، تم استغلال الأحداث للتأثير على الرأي العام ضد جماعات معينة. فعلى سبيل المثال، خلال فترة حكم الرئيس الراحل محمد مرسي، تم تسليط الضوء على كل خطأ صغير أو مشكلة وربطها مباشرة بالإخوان المسلمين، مما ساهم في تشكيل صورة سلبية قوية عنهم. أيضاً بعد أحداث عام 2013 وخلال الأزمة الاقتصادية والأمنية في مصر تم تحميل جماعة الإخوان المسلمين مسؤولية تدهور الأوضاع في سيناء وربطهم بكل أعمال الإرهاب، مما أدى إلى تصاعد مشاعر الاشمئزاز والرفض تجاههم. النظام المصري وكل متابع للأحداث يعرف جيدًا عدم وجود علاقة بين الجماعة والجماعات الإرهابية في سيناء وقتها، بل إن هذه الجماعات نفسها كانت تكفر جماعة الإخوان المسلمين ومنهجهم، لكن عن طريق وسائل الإعلام الموجهة تم تضليل الرأي العام لتحقيق مكاسب سياسية. وقد ساعد على ذلك سيطرة الحكومة المصرية على وسائل الإعلام بشكل كبير، حيث تدير الحكومة معظم القنوات التلفزيونية والمحطات الإذاعية. هذه السيطرة ساعدت في توجيه الرسائل الإعلامية وفقًا للأجندة الحكومية، مما جعل من الصعب على الأصوات المعارضة أن تجد منصة للتعبير عن آرائها ومنع هذا الطرف الآخر من طرح فكرته والدفاع عن نفسه أمام تضليل وسائل الإعلام الحكومية.
الربط بالمشاعر السلبية
يمكن الربط بين حزب أو جماعة معينة ومشاعر سلبية مثل الخوف، الغضب، أو الفشل. على سبيل المثال، حاول الإعلام المصري الربط بين جماعة الإخوان المسلمين وكلمات مثل "جهاد النكاح"، "ريحتهم نتنة"، و"تجار دين"، بهدف دفع الناس للشعور بالاشمئزاز من تلك الجماعة حين يتم ذكرهم بشكل تلقائي.
وقد ظهر تأثير "العامل المقزز" مرة أخرى في أفلام ومسلسلات شركة المتحدة التابعة للاستخبارات المصرية والتي تعمدت فيها إظهار جماعة الإخوان المسلمين بصورة مقززة، عن طريق التركيز على مشاهد يظهر فيها أفراد الجماعة أنانيين، أغبياء، متعطشين للدم، تملأهم مشاعر الغضب والانتقام، ولا يهتمون بالوطن. بينما يتم التركيز على إظهار عناصر الأمن المصري وعائلاتهم في صورة المسلم الملتزم الوطني الطيب. هذه الأعمال السينمائية والأفلام كانت تحتوي على مشاهد تسخر من المعارضة بشكل عام وتصورهم كمجرمين ومتطرفين وأغبياء، مما يعزز الصورة السلبية لدى الجمهور.
بالإضافة إلى وسائل الإعلام التقليدية، لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورًا كبيرًا في نشر هذه الرسائل. الشخصيات العامة والمؤثرة استخدمت منصات مثل فيسبوك وتويتر لنشر آرائها وتوجيه الرأي العام ضد الجماعات المعارضة. وقد أظهرت العديد من الدراسات كيف يمكن للرسائل من الشخصيات المؤثرة أن تكون لها تأثير كبير على تشكيل مواقف الجمهور تجاه السياسات والجماعات المختلفة، وذلك من خلال تعزيز المشاعر السلبية مثل الخوف والغضب تجاه تلك الجماعات.
في روايته الأشهر "1984" يقول الكاتب الإنجليزي جورج أورويل على لسان أحد شخصياته، "من يسيطر على الماضي يسيطر على المستقبل، ومن يسيطر على الحاضر يسيطر على الماضي"، فقد حاول أورويل ببراعة أن يصور كيف للأنظمة الشمولية في القرن العشرين أن يكون لديها القدرة على امتلاك وإدارة نظام يُشَغَّل كل قدرات الدولة التكنولوجية والعلمية والإنسانية بهدف السيطرة على الأفراد جسدياً وفكرياً، حيث تصبح السيّطرة هنا هي عملية التحكم الكامل بوعي الأفراد وأجسادهم ووضعهم تحت المراقبة الدائمة، ليس فقط من أجل إخضاع كامل المجتمع والأفراد وإجبارهم على قبول خطوطه سياستها العامة، بل كمحاولة أيضاً لإعادة صياغة المجتمع والأفراد بشكل كامل عن طريق إعادة تشكيل ذاكرتهم الفردية والمجتمعية، وتاريخهم ووعيهم بذواتهم؛ صياغة يصبح فيه حضور السُلطة حضورًا مطلقًا، كجزء من جميع الخلايا الاجتماعية والنفسية للفرد، خالقًا بذلك مجتمعاً قائما على الشك والمراقبة والعزُلة وتجنيد الأفراد لصالح السُلطة.
تأثير العامل المقزز على اللاجئين
يمكن رؤية تأثير العامل المقزز أيضًا في قضية اللاجئين. ففي أوروبا، نجد في سياسات وممارسات الأحزاب الحكومية هذا التأثير على تناول قضايا اللاجئين إعلاميًا، يتم أحيانًا استخدام الدعاية السلبية لربط اللاجئين بمشاكل اجتماعية واقتصادية وأمنية، مما يؤدي إلى شعور السكان المحليين بالاشمئزاز والرفض تجاههم.
إذ يُصوّر اللاجئون في أغلب الأحيان على أنهم عبء اقتصادي واجتماعي، بينما يركز الإعلام التابع لتلك الأحزاب أو الحكومات على ربط اللاجئين بارتفاع معدلات البطالة والجريمة، مما يزيد من مشاعر الاشمئزاز والخوف تجاههم، مما يساهم في تكوين صورة نمطية سلبية عن اللاجئين كأفراد غير مرغوب فيهم ويمكن أن يكونوا مصدرًا للمشاكل.
ففي ألمانيا، على سبيل المثال، كانت وسائل الإعلام مسؤولة عن تأطير النقاش حول أزمة اللاجئين بشكل يؤدي إلى تصاعد المخاوف الأمنية والاقتصادية. الإعلام الألماني، خاصةً اليميني، غالبًا ما يركز على قضايا مثل الإرهاب والجرائم التي يُزعم أن اللاجئين يرتكبونها، مما يعزز من مشاعر الخوف والكراهية تجاههم. وقد أشارت بعض التقارير إلى أن استخدام الإطارات الإعلامية الأمنية لتغطية أزمة اللاجئين زاد من التوترات والمشاعر السلبية بين الجمهور الألماني، وهو ما انعكس في زيادة شعبية اليمين المتطرف خلال الفترة الأخيرة في أوروبا بشكل عام.
والمشكلة هنا، أن تلك التأثيرات لن تضر فقط اللاجئين فالتغطية الإعلامية السلبية تؤدي إلى تعزيز الصور النمطية السلبية والتفرقة الاجتماعية، مما يجعل اللاجئين يواجهون صعوبات أكبر في الاندماج داخل المجتمعات المستضيفة، مما سيؤثر سلبًا على العلاقات بين اللاجئين والمجتمعات المحلية ويزيد من العزلة والتوتر الاجتماعي.
إن تأثير العامل المقزز يمتد إلى تغيير العقل اللاواعي للجماهير بوسائل الإعلام والدعاية، مما يمكن أن يؤدي إلى نتائج كارثية على النسيج الاجتماعي والسياسي للدولة. إذ تستطيع الحكومات أو جماعات الضغط استخدام هذه الوسائل لتشويه سمعة الخصوم، مما يعزز مشاعر الكراهية والاستقطاب بين فئات المجتمع المختلفة. يمكن أن يؤدي هذا الاستخدام المكثف للدعاية السلبية إلى زيادة التوترات الاجتماعية والسياسية، وفي بعض الحالات القصوى، إلى حروب أهلية أو تطهير عرقي، كما شهدت سوريا والعراق في العقد الأخير. حيث في سوريا، استغلت الحكومة والإعلام الرسمي مشاعر الخوف والطائفية لتشويه سمعة المعارضة، مما أدى إلى تصاعد العنف والتحول إلى حرب أهلية شاملة. وفي العراق، أدت الدعاية الطائفية إلى تفاقم الصراعات بين السنة والشيعة، مما ساهم في زيادة العنف وانتشار الجماعات الإرهابية مثل داعش.
تبرز هنا إشكالية أخلاقية تتعلق بمدى صلاحية استخدام هذه الوسائل ضد الخصوم. يجب أن يكون هناك حد واضح لما يمكن استخدامه في الحملات الدعائية لضمان عدم التسبب في استقطاب سياسي واجتماعي يؤدي إلى حرب أهلية. استخدام العامل المقزز يتطلب توازناً دقيقاً ووعياً بالآثار البعيدة المدى لهذه الأساليب. حيث يتطلب استخدام العامل المقزز فهماً عميقاً للتوازن بين التأثير الفوري والآثار البعيدة المدى. لذلك، يجب على الحكومات والمسؤولين أن يكونوا على دراية بالحد الذي يجب التوقف عنده لتجنب تصاعد العنف والانقسام المجتمعي. يجب أن تركز الحملات الدعائية على النقاش السياسي الصحي والبناء، بدلاً من استغلال المشاعر السلبية لتعزيز الكراهية والانقسام.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.