حبيبة رسول الله وزوجته ﷺ، وبنت خليفته أبي بكر الصديق (رضي الله عنه)، أم المؤمنين، أفقه نساء الأمة، العالمة الفصيحة، العين الراصدة ليوميات صاحب الدعوة ﷺ، والأذُن الواعية للعلم النبوي، التلميذة النجيبة الأولى في مدرسة النبوة، يعينها على ذلك استعداد فطريّ لسرعة الحفظ وحسن الفهم وجودة التعبير عن نفسها؛ مما أهّلها بجدارة لأن تعيش حياة حافلة بالنشاط العلمي، والعمل لخدمة الدين والأمة، فخلّفت لأبنائها المسلمين تركة غنية من مناهج النظر في مصادر التشريع وصياغة الفتوى، والتعامل المتّزن مع النصوص.
اسمها ونسبها وكنيتها
كان اسمها الذي عرفت به عائشة، ولقبها الصديقة، كانت تخاطب بأم المؤمنين وتكنى بأم عبد الله، وأحياناً تلقب بالحميراء، والمبرأة، والطيبة، وحبيبة النبي ﷺ، بنت أبي بكر الصديق، عثمان بن أبي قحافة بن عامر بن عمر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن فهر بن مالك، ويلتقي نسبها مع نسب رسول الله ﷺ في الجد السابع ومن قبل الأم في الجد الحادي عشر أو الثاني عشر.
مناقبها وفضائلها
صفاتها الخُلقية: لقد اجتمع في عائشة (رضي الله عنها) أكرم الصفات الحسان، وكان من أبرز الصفات التي اتصفت بها، الصدق والذكاء، فقد ورثت من أبيها هاتين الصفتين النادرتين، فكانت متحررة في نقد الحديث، وحريصة على نقله على الوجه الذي جاء، من غير تبديل ولا تنقيص، ومع ذلك فقد كانت متوقدة الذكاء، حاضرة الذهن، عذبة الحديث، على جانب عظيم من الحكمة والفكاهة، بالإضافة إلى أنها أوتيت مقدرة كبيرة على الفهم الفقهي والاستنباط الشرعي، وأيضاً الزهد والورع، فقد عاشت معيشة الكفاف، وذاقت ضيق الحياة، يلامسها الرضا والسعادة، وجادت ببذل من لا يخشى الفقر، وأكرمت كرم صاحبة ملك وجاه، فكانت تنفق على الفقراء، والمساكين، وترعى الأرامل واليتامى، وإلى جانب ذلك، فقد كانت ذات عزة وإيثار على النفس، وجود وسخاء، وإكرام بالضيف، وكانت بهية الطلعة، وضاءة الجبين، زاهية الشباب، تقية ورعة عابدة متواضعة، تبجل الصحابة، وتحفظ لهم قدرهم، وكانت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
رقة قلبها
وكانت (رضي الله عنها) رقيقة القلب، خاشعة قانتة، لا ترى لنفسها فضلاً، ولا تتكئ على قربها لرسول الله ﷺ، وقد علم عنها هذا السمت الخاشع كأبيها (رضي الله عنهما)، وتوافرت الآثار الدالة على ذلك الخشوع القانت، حالاً ومقالاً، فمما يؤثر عنها قولها: (يا ليتني كنت ورقة من هذه الشجرة).
حياؤها
كما أنها كانت (رضي الله عنها) شديدة الحياء، ومن دلائل ذلك ما ذكرته عن نفسها: قالت (كنت أدخل بيتي الذي دفن فيه رسول الله ﷺ وأبي، وأقول إنما هو زوجي وأبي، فلما دفن عمر معهم، فوالله ما دخلته، إلا وأنا مشدودة على ثيابي حياءً من عمر).
جهادها وشجاعتها
كانت عائشة (رضي الله عنها) من ذوات الشجاعة النادرة، تمشي إلى البقيع في الليل، دون أن يصدها خوف أو تردد، وتنزل في ساحات المعارك، وتشارك المسلمين جهادهم ضد المشركين، وتقوم على خدمتهم، وفي غزوة الخندق تقول (رضي الله عنها): (خرجت يوم الخندق أقفوا آثار الناس، فسمعت وئيد الأرض ورائي).
مكانتها العلمية
تبوأت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها مكانة علمية رفيعة، جعلتها عالمة من علماء عصرها والمرجع العلمي الأصيل الذي يرجعون إليه فيما يغمض عليهم، أو يستشكل أمامهم من مسائل في القرآن والحديث والفقه، فيجدون الجواب الشافي لجميع تساؤلاتهم واستفساراتهم.
يقول عنها أبو موسى الأشعري واصفاً علمها رضي الله عنها: (ما أشكل علينا حديث قط، فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علماً). والذهبي رحمه الله قال: (لا أعلم في أمة محمد صلى الله عليه وسلم بل ولا في النساء مطلقاً، امرأة أعلم منها).
وثمة عوامل مكنت السيدة أن تتبوأ من هذه المكانة العلمية الرفيعة، أهمها، حدة ذكائها وقوة ذاكرتها وحفظها، وزواجها من النبي ﷺ في سن مبكرة، وحياتها في كنفه ورعايته لها، بإرشادها وتعليمها، وأيضاً كثرة ما نزل من الوحي في حجرتها حتى سميت مهبط الوحي، وكذلك لسانها السؤول فقلّ ما تسمع شيئاً تستشكله، أو ترى أمراً لا تعرفه، إلا وتسأل مستفسرة عنه، وكم أفادت الأمة من أسئلتها للنبي ومراجعاتها واستفصالها في بعض الأمور الشرعية، وهذه الميزة جعلت السيدة تنفرد برواية الكثير الطيب من الأحاديث النبوية التي لم يسمعها غيرها منه عليه الصلاة والسلام، واتبعت (رضي الله عنها) منهجاً علمياً واضح المعالم، ومن صوره توثيق المسائل بماورد في الكتاب والسنة، وكانت تتورع عن الكلام بغير علم، وتعتمد على الجمع بين الأدلة وفهم مقاصد الشريعة وعلوم اللغة العربية، فاجتمع لها من حفظ الآثار حسن التفقه فيها والاجتهاد، وهي تعرف بأدب الخلاف، كيف لا وقد تعلمت على يدي نبي هذه الأمة ومعلمها ﷺ، وقد تميزت بأسلوب علمي متين في التعليم، فكانت تتأنى في الكلام حتى يسهل استيعابه، وتنكر على من يسرع في كلامه، ولا تكتفي بالتعليم النظري، بل كانت أحياناً تلجأ للتعليم العملي، ببيان كيفية الوضوء والغسل، ولم يمنعها حياؤها من تعليم الناس أمور دينهم، حتى في أخص شؤونهم، وكان لها الحظ الأوفر من تلقي العقيدة من منبعها الصافي، أضف إلى ذلك أنها تربت في بيت مسلم، ولم يخالط عقيدتها شيء من الشرك أو ضلالات الجاهلية.
علمها بالقرآن وعلومه
أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها من كبار مفسري عصرها، ساعدها على ذلك سماعها للقرآن الكريم منذ نعومة أظافرها، وزواجها وعيشها في كنف رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلها تظفر بحضور نزول الكثير من القرآن الكريم، إذ عاشت تسع سنوات في مهبط الوحي، ولم يكن يتنزل الوحي على رسول الله وهو في لحاف امرأة من نسائه غيرها، ولم تكن رضي الله عنها تكتفي بمجرد الحفظ، وإنما كانت إذا غمض عليها شيء لا تتردد في طرحه على الرسول لتتعرف على معاني الآيات القرآنية ومراد الله عز وجل بها، وهذا ما جعلها على معرفة تامة بالقرآن الكريم، بأسباب نزوله وموضوعاته وقضاياه، وكان نزول بعض الآيات بسببها، وكانت تفسره وتجتهد.
علمها بالسنة النبوية
قامت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بدور كبير في رواية السنة النبوية وفي توثيقها، وتعتبر رائدة في هذا المجال، لقربها من النبي ﷺ فقد كانت زوجة شديدة اللصوق به، تسمع منه مالا يسمعه غيرها، وترى من أحواله ما لا يراه غيرها، وتفهم عنه، وتسأله عما يغمض عليها، ولذلك جاءت روايتها للسنة النبوية المطهرة متميزة، لإتيانها على السماع والقرب من رسول الله، ونشأتها وترعرعها في بيت النبوة وتحت توجيهه ﷺ.
وقد بلغت مرويات عائشة رضي الله عنها عن رسول الله 2210 حديثاً، منها 174 متفق عليها عن الشيخين، وانفرد البخاري بـ54 حديثاً، ومسلم بـــ 69 حديثاً، والباقي في الصحاح، والسنن والمعاجم والمسانيد، وقد عدها ابن حزم في المرتبة الرابعة بين الصحابة المكثرين للرواية. قال ابن كثير رحمه الله وهو يتحدث عن عائشة رضي الله عنها: ( ولم ترو امرأة ولا رجل غير أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحاديث بقدر روايتها رضي الله عنها).
علمها بالفقه والفتوى
تعد (رضي الله عنها) بحق أفقه نساء الأمة وأعلمهن، بل من أفقه وأعلم الصحابة، قال عطاء رحمه الله: (كانت عائشة أفقه الناس، وأعلم الناس، وأحسن الناس رأياً في العامة)، ومما يؤكد علمها بشأن الفتوى والفقه أن أكابر الصحابة كان إذا أشكل عليهم الأمر في الدين استفتوها، فيجدون علمه عندها، قال مسروق رحمه الله: (لقد رأيت الأكابر من أصحاب رسول الله يسألونها عن الفرائض)، ولم تقف (رضي الله عنها) عند رواية النصوص وفقهها والإفتاء بها، بل كانت (رضي الله عنها) صاحبة ملكة فقهية تستطيع من خلالها استنباط الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة، وعندها العلم بأسرار الشريعة، والحكم والمصالح، ولم تكن تقف عند ظواهر النصوص.
علمها الواسع بالعلوم المختلفة
كانت عائشة (رضي الله عنها) على قدر كبير من المعرفة بالتاريخ وأيام العرب وسيرة الرسول وقد عاصرت الخلفاء الأربعة، وقد جاءت عنها روايات تعرف فيها بأحوال أهل الجاهلية، وعاداتهم وأخبارهم الاجتماعية، وطقوسهم وعبادتهم وحروبهم، أضف إلى ذلك أنها كانت على درجة عالية من الفصاحة والبلاغة، ومعرفة الشعر، فعن موسى بن طلحة قال: (ما رأيت أحداً أفصح من عائشة)، ومن فصاحتها وبلاغتها أنها إذا استثيرت يعلو كلامها ويفخم، كأنما تصدر به عن ثقافتها الأصلية وعلومها الوفيرة، كما أنها كانت حافظة للشعر، وتقبل الشعر الحسن وترويه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسر لسماعه منها، ويستزيدها منه، وملكة الشعر عندها وراثية، فأبوها كان يحفظ الشعر ويصحح أوزانه، وكانت توصي الناس أن يعلموا أولادهم الشعر، لتعذب ألسنتهم، وما كان ينزل بها أمر إلا أنشدت فيه شعراً.
وفاتها
حضرتها الوفاة في ليلة الثلاثاء 17 رمضان 57 هـ وقيل 58 هـ وقيل 59 هـ، وصلى عليها أبو هريرة بعد صلاة الوتر، ونزل في قبرها عبد الله وعروة ابنا الزبير بن العوام من أختها أسماء بنت أبي بكر والقاسم وعبد الله ابني محمد بن أبي بكر، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر، ودفنت في البقيع.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.