ميلان كونديرا و زيجمونت باومان: كيف وصفا لنا أزمة عصرنا؟

عربي بوست
تم النشر: 2024/07/14 الساعة 13:56 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2024/07/14 الساعة 20:51 بتوقيت غرينتش
صورة تعبيرية - shutterstock

"أدركنا منذ زمن طويل أنه لم يعد بالإمكان قلب هذا العالم، ولا تغييره إلى الأفضل، ولا إيقاف جريانه البائس إلى الأمام، لم يكن ثمة سوى مقاومة وحيدة ممكنة: ألا نأخذه على محمل الجد".

رغم هذا القول الذي انتشر على نطاق واسع في مواقع التواصل الاجتماعي بعد نشر عمله "حفلة التفاهة"، لا يبدو أن شيئًا يعلق في ذهن القارئ سوى تأكيد جديد على خفة الحياة وتفاهتها، التأكيد على أن لا سبيل لمواجهتها سوى بألا نأخذها على محمل الجد. فالعالم يذهب إلى نهايته منذ لحظة مولده، هكذا يقول كونديرا في أحد حوارته، فهكذا يرى الأشياء من حوله، مصيرها هو الفناء، ولا سبيل لإيقاف ذلك.

في السياق الأدبي والفلسفي للقرن العشرين، يبرز ميلان كونديرا كمراقب بارع لتأثيرات الحداثة، فينسج ويسخر من خلال رواياته تصورات معقدة تبين هشاشة الوجود الإنساني وسطحيته. "كائن لا تحتمل خفته"، تلك الرواية التي رسمت سيولة القيم والأخلاق في عصرنا، تقدم رؤية لعالم حل محل ثقل التاريخ والاختيارات الشخصية خفة مقلقة. تأتي هذه الأفكار مع الرؤى والتحليلات الاجتماعية لـعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان الذي يرى أن الحداثة والحياة أصبحتا "سائلتين"، تتسمان بعدم الثبات والزوال.

في عالم كونديرا، تكرر مواضيع تآكل القيم والأخلاق التقليدية. شخصياته، وهي تائهة في متاهة العالم حيث تهاوت اليقينيات القديمة، تخلف وراءها فراغًا أخلاقيًا يصعب ملؤه. في "كائن لا تحتمل خفته"، يبرز التناقض بين سعي توماس المتعطش للمتع العابرة ورحلة تيريزا الباحثة عن المعنى، مما يوضح الانقسام بين الخفة والوزن وكيف يشكل هذا الانقسام المشهد الأخلاقي الحديث.

ميلان كونديرا و زيجمونت باومان
الكاتب والأديب العالمي ميلان كونديرا – Wikimedia Commons

هذا الانفصال القيمي لا يُعتبر تحررًا، بل يمثل مصدرًا للقلق الوجودي المتعمق. التخلي عن الحقائق المطلقة واعتناق النسبية يغذيان شعورًا بالارتباك والضياع. شخصيات كونديرا، التي تعيش سلسلة من الاختيارات العابرة، تجد نفسها في نهاية المطاف عاجزة عن العثور على الإشباع الدائم. إن خفتهم ليست سوى عبء يجردهم من أي معنى عميق في الحياة.

يوضح مفهوم زيجمونت بومان "الحداثة السائلة" إطارًا اجتماعيًا يوضح أسباب الواقع التي يصورها كونديرا بشكل واضح. يرى باومان أن المجتمع المعاصر يتميز بحالة مستمرة من التدفق، حيث تلاشت الهياكل التقليدية والقيم القديمة. تولد هذه الحداثة السائلة شكلاً من أشكال الحياة السائلة وغير المستقرة والخالية من النقاط المرجعية الثابتة. حيث تم استبدال الصلابة التي كانت توفر في السابق إحساسًا بالأمان والاستمرارية بمشهد دائم التغير من الروابط سريعة الزوال والالتزامات العابرة.

إن طرح باومان عن "الحياة السائلة" يوضح بشكل أكبر جوهر عدم الاستقرار هذا. في عالم حديث سائل، يجب على الأفراد التكيف باستمرار مع الظروف المتغيرة، وإعادة اختراع أنفسهم بشكل دائم لمواكبة التحولات السريعة من حولهم. وتؤدي هذه السيولة التي لا هوادة فيها إلى تقويض إمكانية الالتزام الأخلاقي والأخلاقي المستمر، مما يؤدي إلى انتشار شعور بعدم اليقين وعدم الثبات. يتردد صدى نقد بومان بعمق مع تصوير كونديرا للشخصياته في أعماله الروائية العالقة في مخاض الاضطرابات التاريخية والأزمات الشخصية، والتي تتسم حياتهم بالافتقار إلى الجوهر الدائم والتماسك.

ميلان كونديرا و زيجمونت باومان: كيف وصفا لنا خفة العالم التي لا تحتمل؟
عالم الاجتماع زيجمونت باومان – shutterstock

اكتشف كونديرا ذلك لمأزق الإنساني مبكراً الذي يعيشه البشر في سياق الحداثة والذي يكشف عن التناقضات والتحديات الكامنة في العيش في عالم حيث القيم في تغير مستمر. فالخفة التي تسود حياة شخصياته هي رمز للحالة المجتمعية الأوسع التي وصفها باومان. هذه الخفة ليست مجرد غياب للثقل، بل هي فراغ وجودي عميق، وشعور بانعدام المعنى ينشأ من انهيار الأطر الأخلاقية المستقرة.

في "كائن لا تحتمل خفته"، خيانات توماس المتكررة ومحاولات تيريزا اليائسة لترسيخ نفسها بشعور بالهدف تسلط الضوء على التوتر بين الحرية الفردية والبحث عن أهمية دائمة. عنوان الرواية نفسه يؤكد على هذه المفارقة: الطبيعة التي لا تحتمل لحياة تعيش بلا وزن، دون التأثير الأساسي للقيم الدائمة. تكافح شخصيات كونديرا، مثل سكان عالم باومان الحديث السائل، للعثور على معنى في واقع لا يقدم موطئ قدم ثابت، ولا حقائق ثابتة.

بينما يمتد نقد باومان للحداثة السائلة إلى مضامين أوسع نطاقا بالنسبة للمجتمع ككل. إن المرونة التي تحدد الحياة المعاصرة، رغم أنها توفر قدراً أكبر من الحرية والمرونة، إلا أنها تقوض في نهاية المطاف أسس التماسك الاجتماعي والنزاهة الأخلاقية. يؤدي انحلال القيم المستقرة وصعود ثقافة الإشباع الفوري إلى إضعاف الروابط المجتمعية وتفتت الهوية الجماعية. ينعكس هذا التشرذم المجتمعي في التفكك الشخصي الذي تعيشه شخصيات كونديرا، الذين يجدون أنفسهم معزولين ومغتربين في عالم تندر فيه الروابط ذات المعنى على نحو متزايد.

إن الدمار الذي تحدثه هذه السيولة هو تدمير شخصي ومجتمعي. على المستوى الفردي، يؤدي غياب القيم المستقرة إلى الشعور باليأس الوجودي، حيث يكافح الناس للإبحار في عالم لا يوجد فيه شيء مؤكد، وكل شيء في حالة تغير مستمر. وعلى المستوى المجتمعي، يؤدي تآكل القيم المشتركة وصعود النزعة الفردية إلى خلق مجتمع منقسم ومفتت، حيث يأتي السعي لتحقيق الرضا الشخصي غالبا على حساب الرفاهية الجماعية. وبالتالي فإن تحليل باومان للحداثة السائلة يقدم تعليقًا واقعيًا على العواقب المترتبة على عالم أصبحت فيه الخفة والسيولة هي الخصائص المميزة.

لقد استطاع زيجمونت باومن بخفة ودقة تفكيك وشرح الأزمات التي يعاني منها واقعنا المعاصر. من خلال تعريفة عن الحداثة السائلة، قدم باومن تأويلاً يساعدنا على فهم لماذا تبدو الحياة اليوم متقلبة ومتسارعة الزوال. ميلان كونديرا، من جهته، يبرع في تجسيد هذه الأزمة من خلال شخصياته الروائية التي تصارع الوجود في عالم يفتقر إلى الثبات والمعنى.

بالرغم من اتفاق كونديرا وباومن على تشخيص الواقع الذي نعيشه، يتجلى اختلافهما في كيفية التعامل مع هذا الواقع. يرى باومن أنه من الضروري مقاومة السيولة المستمرة للحياة من خلال الفعل الجماعي وتشكيل التضامن الاجتماعي كاستجابة لتحديات العصر. على النقيض من ذلك، يقدم كونديرا نهجاً مختلفاً: تماهياً مع الحياة كما هي، بعدم أخذها على محمل الجد والتكيف مع عدم الاستقرار بوصفه واقعاً لا مفر منه.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
مظفر حبيبوليف
كاتب وطالب دكتوراة في الأدب من أوزبكستان
تحميل المزيد