في بنايتي تستقر بقالة صغيرة لصاحبها محمد خميس وهو باكستاني ترك منزله وأهله وأقاربه واستقر في الخليج منذ 16 عامًا، أذهب إليه أحيانًا لأتحدى كسلي أو لأن هناك فعلاً ما يدعو للذهاب، أتشارك الطابق والمصعد مع فتاة هندية عادة ما نهبط إلى البقالة معًا، وعادة أيضًا ما نتبادل الأحاديث حول الطقس والعمل الذي لا ينتهي وضرورة إضافة بعض الأجهزة الرياضية إلى النادي الرياضي.
وفي ذات مرة؛ تركتني جارتي على باب البقالة، فسألتها ببعض الخفة إن كانت قد نسيت مكان باب البقالة، فردت أن بقالة جديدة تبعد عن البناية مسافة بنايتين تقريبًا وتود أن تجربها. فسألتها إن كانت بقالة أكبر، قالت لا.. ولكن لديها أصناف مختلفة تناسبها أكثر وسألتني إن كنت أود أن أمشي إليها وأرى بنفسي، فترددت كثيرًا إن كنت سأوافقها أم سأدخل لأعانق مكيف بقالة خميس.
المشي في درجة حرارة تصل لـ 45 مئوية ليس من هواياتي المفضلة وإن كانت لدي هوايات أكثر غرابة وغباء، ولكن وجدت نفسي أنزلق ماشيا نحوها ولا أدري إلى الآن ما دفعني لتلك الجريمة.
في الطريق إلى البقالة المشؤومة عرفت اللغز. حكت لي جارتي أن البقالة الجديدة يملكها رجل ينتمي لنفس القرية التي تنتمي إليها في الهند ويدين بنفس الديانة. لا أدري أيما ديانة هي "الجوچراتي – البنجابي"، ولكنها تتعاطف مع ذلك المسكين الذي فتح بقالته وليس له أي زبائن بعد. فتطوعت جارتي الحنونة عليه وقررت أن تمشي تحت لسعات الشمس ويصيبها ما يصيبها من أجل ذلك المسكين. فسألتها هل هذا لأجل كونه مسكينا بلا زبائن أو لكونه "جوچراتي – بنجابي"؟ فضحكت وقالت بالطبع لكونه "جوچراتي – بنجابي"، إنه أخي الروحي وإن كنت لا أعرفه من قبل ولا أعرف حتى أين يسكن في الهند ولكني قد أقابله في عالم آخر، قد يكون زوجي أو نتشارك رحم قطة أو بيضة طير. هذا ما يعتقده الجوچراتي تقريبا وهذا ما تظنه جارتي "أضعف الإيمان".
لم تحرك قصة هذا الجوچراتي المسكين فيّ ساكنًا بل ندمت حقًا وتألم قفايا كثيرًا لا أدري أمن لسعة الشمس أم من صدى تلك القصة التي بها عبرة بصحيح خاصة وأنا لدي قصة أفضل فأنا أعرف محمد خميس جيدًا، ذلك الباكستاني دمث الخلق وخفيف الظل الذي لا يمل أبدا من محاولات التحدث إلي بعربية فُصحى كلما تعلم من القرآن شيئًا. هو أيضا لديه قصة كفاح فهذا الخميس لديه 6 بقالات يعمل فيها أكثر من 20 عاملا مسلمًا ووراء تلك البقالات أكثر من مئة فم من أهالي العمالة.
وفي مرة سألته لماذا لم يمتلك سيارة خاصة أبدًا ويكتفي بأسطول من الدراجات البخارية؟ فقال لي بلغة هجينة: "نفر ييجي يسوي شغل السيارة ما تسوي شغل" بمعنى أن فرصة عمل جديدة لشاب يعيل أسرة ويعود عليه وعلى نفسه بالمال أحب إليه من أن يمتلك سيارة.
في قلبي غصة يا رفاق.. لا أرى مجتمعًا أكثر غباءً ولا أكذب من مجتمعاتنا، فحتى الجوچراتي لديه من يحمل همه ويقف خلفه ويشدد على أزره ويمشي له متألمًا من أجل قضيته العادلة وهي عقيدة تجمعهما في هذه الدنيا وفي غيرها. تؤمن جارتي أن هذا الدعم والمساندة باقٍ لها في عوالمها الأخرى، يبدو أن الحكمة ضالة المؤمن وليست ضالة الهندي، فمن "فلسطين ليست قضيتي" إلى "اللاجئين من سوريا ومن السودان ليسوا أصحاب البيت بل ضيوف" إلى "هؤلاء السوريين الملاعين الذين سرقوا أقوات الأتراك!"
قلبي مُحطّم تمامًا.. وعقلي!
عجبًا لهؤلاء القوم يعبدون ما يعبدون وترى أوثانًا تشبه الدمى الصينية تعود لهم ويعتقدون أن هذا الكون الفسيح خرج من بطن إله عظيم بما يتوافق مع البيج بانج، وهذا الإله له سبعة آلهة تنوب عنه. ورغم كل هذه المأساة لم تنحرف عقولهم ولم تسودّ قلوبهم للدرجة التي ينسى فيها الجوچراتي أخاه، ولكن ينسى المسلم أخاه ويتفلسف في جدوى مقاطعة ويتفلسف في جدوى ما يحدث من الأساس، ولو طُلب منه أن يمشي تحت الشمس في حاجة أخيه لامتنع.
عجبًا لمحمد خميس، لم يضره ما فعلت تلك الجوچراتية من دعم صاحب المتجر الجديد، فهو يعلم أنّه يقف على ثغر من الثغور، جعله الله وسيلة في رزق غيره. ولا يأبه إن كانت الجوچراتية تشاركه هذا الثغر أم لا، وما يدريه إن كنت خذلته أنا لأذهب إلى البقالة الجديدة، فالله معه.
لا والله يا خميس، لم أخذلك وتلك الجوچراتية ليست أحفظ على عقيدتها مني، والله لو جمعت لك سكان البنايات المجاورة ما وفّاك.
ولكن أعلم يا خميس أنك أيقظت داخلي شيئًا لم يكن ليستيقظ ولو بنهاية العالم.
فليست الجوچراتية بأحن من الله علينا ولكن ننسى أو نغفل، أو كره الله انبعاثنا.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.