شهد العالم تضامنًا غير معهود من قبل الشعوب في مختلف الدول، خلال الإبادة التي ارتكبها ولازال يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، هذه الإبادة التي طالت كل من يعيش في القطاع، من أطفال ونساء وحتى حيوانات لم تسلم من جرائمهم، كذلك مبانٍ، مساجد، مكاتب، المستشفيات والمدارس التي نزحوا إليها، حتى وهم في مخيمات النزوح يتعرضون يوميًا للقصف، ويعيشون مجاعةً كبيرة ونقصًا في التغذية.
دفعت هذه الأوضاع المزرية في غزة، معظم عواصم العالم إن لم نقل كلها إلى القيام بمسيرات ومظاهرات ضخمة تندد بالإبادة الممارسة في حق المدنيين في غزة، وأشدد على مصطلح "الإبادة"، لأن البعض يستخدم مصطلح "جرائم حرب" بينما ما يحدث في غزة لا يمت لجرائم الحرب بصلة، فما تشهده غزة هو إبادة جماعية.
أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة تجريم الإبادة الجماعية في التاسع من ديسمبر سنة 1948، ووفقًا للجنة الدولية للصليب الأحمر، وحددت المادة الثانية الممارسات التي تعتبر إبادة جماعية، وكل هذه الممارسات يقوم بها الاحتلال الإسرائيلي في حق المدنيين في غزة.
بالعودة للحديث عن تضامن الشعوب مع القضية الفلسطينية، في لندن ونيويورك، تبرأ اليهود أنفسهم مما تفعله إسرائيل باسم اليهودية فخرجوا في نيويورك التي تعتبر المكان الذي يضم أكبر جالية يهودية، وعبروا عن مناصرتهم لفلسطين وإيمانهم بأنه لا دولة لليهود وهذا ما تقوله ديانتهم، وعبروا عن مناصرتهم باقتحام الكونغرس مرددين عبارة "NOT IN OUR NAME"، وهذه بوادر تغير السردية الإسرائيلية التي لطالما كانت تتخذ من الشعائر الدينية ذريعة لارتكاب مجازرها في كامل فلسطين وليس فقط في غزة.
استراتيجيات نشر السردية الإسرائيلية
في بداية عملية طوفان الأقصى، بدأت إسرائيل بممارسة دعايتها المضللة لكسب التعاطف والرأي العام الدولي، واستخدمت مجموعة من الاستراتيجيات التي كانت دائمًا تعتمدها في أي عدوان أو انتهاك تقوم به ضد الفلسطينيين، تمثلت الاستراتيجيات في مجموعة من النقاط، أولها أنها نشرت سرديتها عبر Mainstream Media، بثت أخبارًا كاذبة، متعلقة بقتل أطفال صغار، بعدها بدأت القنوات العالمية بإدانة حماس الواحدة تلو الأخرى، واتهامها بأنها منظمة إرهابية، بالرغم من أنها لم تتبع الخبر بأي صورة أو فيديو يؤكد حقيقة هذه الأفعال المزعومة، في هذه الخطوة استخدمت مصطلحات تم انتقاؤها بدقة من أجل توجيه أصابع الاتهام لحماس، وهو ما يجب علينا الانتباه له، اختيار المصطلحات في الإعلام أمر جدا مهم، ويوجه الجمهور أحيانًا بدون الحاجة لصور وفيديوهات. نأتي للخطوة التالية وهي التكرار، استخدمت الحصص والبرامج التلفزيونية عبارة DO YOU CONDEMN HAMAS، وبدأت بتكرارها في كل مقابلة تجريها، ومع أي ضيف تستضيفه، مهما كانت خلفيته السياسية، وكذلك عبارة "من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها"، وسنأتي في ذكر تفاصيل ظهور هذه العبارة. لذا فالهدف من التكرار هو رسم صورة نمطية لدى الجمهور، لتترسخ بأن حماس ارتكبت جريمة في جميع الأحوال، لكن هل تدينها أم لا؟، بينما السؤال الرئيسي هل قامت فعلا حماس بهذا الفعل، وما الدافع وراء أحداث السابع من أكتوبر، هل حقا هو اعتداء ، أم أنه دفاع عن نفسها من جرائم الاحتلال والحصار الذي فرضته على قطاع غزة؟
وبالحديث عن الصورة النمطية Stereo Type، فأول من تحدث عن الصورة النمطية في العصر الحديث هو الصحفي الأمريكي والتر ليبمان في كتابه "الرأي العام" الذي صدر عام 1922، وهي التصور الذي يقفز للذهن عند ذكر شخص أو فئة أو شعب نتيجة ما اقترن في الذاكرة من تراكمات معرفية صنعت حولهم أحكامًا مسبقة ودون مراعاة لفروق فردية أو ثقافية بين أفراده أو فئاته.
وهذا ما قام به الإعلام الغربي لشيطنة العالم العربي والإسلامي بصفة خاصة، حيث نجد أنه تناول الإسلام بأسلوب منفر وغير صحيح، ويرسخ في أذهان الغرب صورة العرب والمسلمين المظلمة السوداوية، وهي صورة تصب في القناة التي تغذي الإسلاموفوبيا لدى الغرب، وتسهم في زيادة اشتعالها.
تأتي في المرحلة الأخيرة الاستراتيجية الأهم، وهي تجريد أحداث السابع من أكتوبر من سياقها، فقامت بالحديث عن ما حدث في عملية طوفان الأقصى كأنه لم تكن هناك جرائم لإسرائيل في حق الفلسطينيين قبل هذا التاريخ، وكأن غزة لم تكن محاصرة منذ 17 سنة، وهذا مكنهم من استخدام عبارة "من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها".
هل نجحت إسرائيل في تمرير الأخبار المغلوطة؟
بالرغم من الجهود التي استخدمها الاحتلال الإسرائيلي، إلا أن صحافة المواطن قالت كلمتها، كما نعلم جميعًا أن صحافة المواطن ظهرت مع الانتشار الواسع لاستخدام مواقع التواصل الاجتماعي، لما وفرته من مساحة وحرية وسهولة في نشر الأخبار والمعلومات من طرف أي شخص يمتلك حساب في موقع التواصل الاجتماعي، وبذلك يصبح "صحفي مواطن"، بدورهم قام المؤثرون المتضامنون مع القضية الفلسطينية، ومع المتابعين لأحداث غزة، بترجمة الفيديوهات والمحتويات للغات عدة أبرزها اللغة الإنجليزية، وهذا ما جعل السردية الفلسطينية ترى النور، وتصل لشعوب العالم، وبهذا تسقط سردية إسرائيل التي كانت سائدة.
استمر العالم بمناصرة غزة، كل حسب طريقته ونظموا عدة حملات، كان أبرزها وأولها هو ترجمة كل ما يأتي من فيديوهات توثق جرائم الاحتلال الإسرائيلي للغة الإنجليزية، ثم تلتها حملة المقاطعة، بالامتناع عن استهلاك أي منتج له علاقة بدعم الاحتلال من قريب أو من بعيد، مثل ماكدونالدز التي قُدرت خسائرها بعد المقاطعة بخمسة أسابيع بـ 3.37% مما أدى إلى خسارة الشركة 6.87 مليار دولار، فقط في الخمسة أسابيع الأولى، ثم مقاطعة ستاربكس وكوكا كولا وغيرها الكثير. وكذلك حملات في الولايات المتحدة الأمريكية تدعو كل مواطن أمريكي لأن يسحب أمواله من البنوك الأمريكية وعدم دفع الضرائب، للضغط على الحكومة الأمريكية.
أضحى العالم اليوم أمام سرديتين لنفس الأحداث، بعد أن كانت تحتكر الرواية الإسرائيلية كل القنوات العالمية والدولية، وبالرغم من أنها خسرت إعلاميًا، إلا أنها ما زالت تحاول جاهدة في نقل سرديتها، ومحاولة قطع سبل التواصل والاتصال مع الفلسطينيين داخل قطاع غزة. إلى يومنا هذا ما زالت تهدد صحفيين ومواطنين ينقلون الحقيقة، مثل صالح الجعفراوي، ووصل تهديدها حتى لقناة الجزيرة، لكن الآن وبفضل هؤلاء سمع العالم أصوات كل من في غزة، واكتشفوا بشاعة الاحتلال، وهذا ما شاهدناه من مجموعة من الإسرائيليين أنفسهم يقولون إنهم لأول مرة يعلمون حقيقة الدولة التي نشؤوا فيها، ومنهم من تخلى عن جنسيته مثل يولا بينيفولسكي Yuula Benivolski فنانة وصانعة أفلام يهودية تحمل الجنسية الكندية والإسرائيلية.
طوفان الأقصى والخارطة الجيوسياسية
لم تغير الحقيقة مواقف أفراد فقط، بل تغيرت مواقف دول من القضية الفلسطينية، حيث إبان الإبادة الجماعية الممارسة على غزة، اعترفت النرويج، إسبانيا، إيرلندا، بفلسطين كدولة، ثم بعدها سلوفينيا ومؤخرًا أرمينيا، ونتوقع أن تسير فرنسا نفس خطى هذه الدول، فعند التمعن فيما شهدته فرنسا في الانتخابات التشريعية بفوز الجبهة الشعبية، وفي تصريح ماتيلد بانو Mathilda Panot، وكذلك Jean-luc Mélenchon ميلونشو بعد فوزهم مباشرة، كشفت عن مجموعة القرارات التي سوف يقومون بها في الـ 15 يومًا القادمة، من بينهم الاعتراف بفلسطين كدولة، وقبلها أصدرت المالديف قرارًا بعدم سماح دخول حاملي الجواز الإسرائيلي من دخول أراضيها. كل هذه التحولات سوف تؤثر على الخارطة الجيوسياسية للعالم ما بعد 7 من أكتوبر.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.