لقد أشرف العالم على دخول ساعته الخامسة والعشرين؛ وهي التي لن تشرق الشمس من بعدها على الحضارة البشرية أبداً، ولن يحل بعدها يوم جديد. إنها الساعة التي سيتحول فيها البشر إلى أقلية عديمة القدرة على التفكير، لا وظيفة لها غير إدارة جحافل الآلات وصيانتها وتنظيفها.
رواية الساعة الخامسة والعشرون
في عالم تغمره الفوضى ويطغى عليه صدى الحروب والكوارث، يأتي سؤال في خاطري: ما الذي يبقى من الإنسان عندما تُسحق روحه تحت وطأة الأنظمة الشمولية والحروب المدمرة؟ كيف يمكن للإنسان أن ينجو من كل هذا الكم من الألم والمعاناة، ويكمل حياته كإنسان جديد، يحمل في طياته كل جراح التاريخ وأوجاعه؟.
رواية "الساعة الخامسة والعشرون"، رائعة قسطنطين جيورجيو، كانت بمثابة مرآة تنعكس فيها كل هذه التساؤلات، وجعلتني أرى جزءًا من الحقيقة العارية للوجود الإنساني في أحلك لحظاته. هذه الرواية بالنسبة إليَّ لم تكن مجرد قصة تروى، بل كانت رحلة عميقة إلى العالم والمأزق الإنساني.
تدور الرواية حول شاب وُلد في قرية رومانية صغيرة يدعى يوهان موريتز، حاملاً أحلامه كأي شاب بين يديه. يروي لأهله وأصدقائه عن خطته للسفر إلى أمريكا، لبناء بيت وامتلاك أرض يزرعها، والزواج من الفتاة التي يحب. يسير بين الحقول وقت الغروب، مشدوهًا بجمال الطبيعة، ومختالاً بوعد الحياة له.
جاءت الحداثة لتعد الإنسان بالرفاهية، والقوة والأمان، لكن يبدو أن الحداثة نسيت وعودها، ونرى ذلك بوضوح خلال الرواية، حيث لم يكن للأفراد مكان كأفراد، بل كانوا دائمًا جزءًا من كيان أعلى. لم يكن ليوهان حظ في اختيار اسمه، الذي بدا وكأنه يهودي في زمن كانت فيه بلاده تحت تهديد النظام النازي. أُجبِر يوهان على الطلاق، ونُقل بين المعتقلات إرضاءً لحليف رومانيا النازي. وتأخذنا الرواية في رحلة سردية مؤلمة تكشف عما يعانيه البشر من قهر وظلم عند سقوط الحضارة، فيصبح الإنسان بلا قيمة أو، في أحسن الأحوال، كرقم يُصادَر كما تُصادَر الممتلكات، بلا أي هوية أو خصوصية إنسانية.
الحياة فوق خطوط النار..
فنرى في رواية "الساعة الخامسة والعشرون" كل شيء على حقيقته، فالحرب ليست مجرد خلفية للأحداث، بل هي المسرح الرئيسي الذي تُعرض عليه مأساة الإنسان. يصف جيورجيو المعارك بعبقرية أدبية تجعلنا نرى تفاصيل الرعب والدمار بوضوح. الأبطال هنا ليسوا جنودًا فحسب، بل أرواح مُتكسرة تبحث عن معنى وسط الفوضى. في كل صوت طلقة وكل انفجار، نجد أنفسنا نشعر بلحظات الخوف والشجاعة، وندرك كيف يمكن للحروب أن تلتهم النفوس وتُحول الأمل إلى رماد.
السجون في صفحات الرواية لم تكن مجرد أماكن احتجاز، بل كانت عوالم مُصغرة للقهر والظلم. جيورجيو يفتح لنا أبواب الزنازين، لنستنشق هواءها العَفِن ونستمع إلى صرخات الصمت المكبوت. فهناك، يُجرد الإنسان من كرامته، تُسلب حريته، ويُجبر على مواجهة ذاته الهشة. في هذه الزنازين. بينما المدن المحاصرة في الرواية تُصوَّر كلوحات حزينة تمزج بين الجمال والخراب. جيورجيو يصور لنا كيف تتهاوى المباني وتتحول الشوارع إلى متاهات من الأنقاض. لكن في وسط هذا الدمار، تنبض الحياة بقوة غريبة.
أما عن الأنظمة الشمولية في "الساعة الخامسة والعشرون" فهي ليست مجرد حكومات، بل هي آلات ضخمة تسحق الفردية بلا رحمة. جيورجيو يُظهر كيف تتحول المجتمعات إلى مكائن بشرية تعمل من أجل أهداف لم تخترها ولم تفهمها. الأفراد يُجبرون على الانصهار في هذه الآلة، يفقدون هويتهم وأحلامهم، ويصبحون تروسًا في جهاز لا يرحم.
في "الساعة الخامسة والعشرون"، يتجلى الإنسان ككائن هش وقوي في آنٍ واحد، يتأرجح بين الحلم والكابوس، بين الأمل واليأس. الرواية ليست مجرد سرد لوقائع تاريخية مريرة، بل هي استكشاف فلسفي عميق لما يعنيه أن تكون إنسانًا في مواجهة قوى تفوق قدرتك على الفهم والتحكم. عندما تنهار الحضارة، وتتحول الإنسانية إلى أرقام في سجلات بيروقراطية، تتبدد الأحلام وتتحطم الأرواح.
يعيش يوهان موريتز في ظل أنظمة شمولية تلتهم الفردية وتطمس الهوية. عبر عينيه، نرى كيف يمكن للبشر أن يُعاملوا كأشياء، تُصادر حقوقهم كما تُصادر الممتلكات. الرواية تطرح تساؤلات وجودية حول طبيعة الإنسان وحريته. كيف يمكن للفرد أن يحافظ على ذاته في مواجهة آلة قمعية لا تعرف الرحمة؟ كيف يمكن للإنسان أن يبقى إنسانًا عندما تُسلب منه كل مظاهر الإنسانية؟ جيورجيو يترك لنا إجابات متعددة ومعقدة، ولكن ربما تكون أعظم رسالة تحملها الرواية هي أن الإنسان، في جوهره، لا يُقهر. قد يُكسر، يُذل، ويُسحق، لكنه أحياناُ يظل قادرًا على المقاومة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.