كل من أوروبا وأمريكا أنفقتا أكثر من 200 مليار دولار على مسرح الحرب، رقم يفوق، بعد حساب التضخم، الأموال التي استُثمرت في خطة مارشال لإعادة إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. يزداد العبء الآن بعد أن واجه الهجوم الأوكراني المضاد، والذي تم الترويج له بشدة في وسائل الإعلام خلال العام المنصرم، فشلاً لم يكن في الحسبان. هذا الفشل جعل من الصعب على قادة الأطلسي تبرير مزيد من الإنفاق الحربي، خصوصًا بعد الموافقة الأوروبية على حزمة مساعدات بقيمة 54 مليار دولار في فبراير/شباط، وذلك إثر تأخير بسبب معارضة المجر. تتصاعد الأصوات المشككة في جدوى الحرب، وتغذي هذه الأصوات المناخ السياسي المتوتر بسبب تفاقم أزمة المعيشة جراء العقوبات المفروضة على روسيا.
إضافة إلى ذلك، تُظهر الحرب في أوكرانيا كارثة استراتيجية بعيدة المدى للقارة الأوروبية، مدمرة أي آمال متبقية في الاستقلال الاستراتيجي، ومعرضة القارة للتبعية للولايات المتحدة في أضعف مراحلها منذ الحرب العالمية الثانية. تواجه أوروبا، وخصوصًا الجزء الغربي منها، خسائر جمة بغض النظر عن نتائج الصراع في أوكرانيا.
واليوم، الأخبار السيئة تطوّق العالم، البشرية محاصرة بأنباء الحروب، والمجاعات، والفساد، والكساد، والانقطاعات، والتحركات العسكرية. هنا، في الجنوب، ربما اعتدنا على قبح الواقع، لكن جيراننا في الكوكب في الشمال ليسوا بخير، فالعالم أصبح أكثر ارتباطاً وتعقيداً، فلم يعد هناك ما يبعث الطمأنينة في الجبهة الغربية.
فأزيز الأخبار لا ينقطع عن اختراق أذن المواطن الغربي، أخبار مفزعة انقطعت عنه منذ عقود، لكنها تعود اليوم، وقد تعيد معها حلقة من أفظع حلقات التاريخ بالنسبة لهم. مفاهيم شديدة الوطأة مثل التقشف، الركود الاقتصادي، أزمة الغاز، نقص السلع، تسربت إلى مدن ألفت الرخاء، ما بث في النواحي الأوروبية بعضاً من الإحباط، ما لبثا أن أنتجا غضباً أمام نازلات اليوم.
يخبرنا التاريخ أنه حين تتشبع "النفس البيضاء" بالعجز والغضب، فإنها ترى الكون عصيّاً على القسمة، وحينها تخرج رسل "اليمين المتطرف" من جحورها، لتبيع صكوك النجاة من الشقاء والفقر، تعدهم باستبدال الليبرالية وقيمها المائعة، بنوعٍ جديد من المبادئ المُكَرّسة لرعاية أُمةٍ موحدةٍ نقية محمية من أخطار فقر وهمجية أهل الجنوب.
فها هي فرنسا، بلد الأنوار، يكشف جوردان بارديلا، الأمين العام لحزب التجمع الوطني، اليميني المتطرف الذي يتصدر استطلاعات الرأي، عن مقترحات حزبه بشأن أزمة تكلفة المعيشة وأوكرانيا والهجرة للانتخابات التشريعية الفرنسية المقبلة، فأثناء زيارته لمعرض الأسلحة الأوروبي في باريس قال: "يجب أن تكون أوكرانيا قادرة على الدفاع عن نفسها".
وبرغم أن حزب التجمع الوطني على مدى العامين الماضيين، حاول التخلص من الاتهامات التي يواجهها أعضاؤه بالتقرب من روسيا، كان رافضاً لحماسة ماكرون ورغبته في نشر جنود أو مدربين فرنسيين على الأراضي الأوكرانية، فعلى سبيل المثال، يرى بارديلا وضع خطوط حمراء فيما يخص دعم أوكرانيا، إذ يرفض تقديم صواريخ وأسلحة بعيدة المدى قادرة على ضرب الأراضي الروسية.
برأيي أن أي تراجع في الدور الفرنسي في العداء لروسيا سيؤثر بشكل كبير في دعم التحالف الغربي لدعم نظام زيلينسكي فبنظر إلى القادة على الساحة الأوروبية اليوم، أغلبهم يمينيون متطرفون، وكان معظمهم قريبين إلى روسيا، قبل الحرب، بل أجروا زيارات متكررة إلى موسكو، فيما طالب آخرون منهم برفع العقوبات التي فرضت على روسيا بسبب ضمها غير القانوني لشبه جزيرة القرم، فيما دارت حول آخرين مزاعم تلقي أحزابهم مساعدات مالية من قبل روسيا.
لا أقول إن صعود اليمين المتطرف سيوقف الدعم الغربي لأوكرانيا، لكن ما أحاول أن أقوله، أن التقدم الذي حققته أحزاب اليمين، ينذر بـتحولات جوهرية في مقاربة التكتل الأوروبي لعدد من الملفات داخلياً وخارجياً، وهو ما سينعكس على الحرب في أوكرانيا بشكل كبير، وخصوصاً مع تزايد احتمالية عودة دونالد ترامب، الذي وعد بحلِّ الأزمة الأوكرانية في يوم واحد حال تسلمه السلطة في أمريكا وهو ما يثير القلق في أوكرانيا بسبب الشكل الغامض الذي سيتعامل به ترامب من أجل إنهاء هذه الحرب، إذ لا يخفى على أحد أن ترامب لديه علاقات جيدة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
ولم يَخفِ زيلينسكي خوفه من ذلك السيناريو، فقد حذر منه زيلينسكي في أكثر من ظهور له، أنه في حالة عودة ترامب للسلطة ستتوقف المساعدات المالية والعسكرية التي تقدمها الولايات المتحدة لأوكرانيا لضمان استمرارها في الحرب وتبعاً ستتوقف أيضاً المساعدات الأوروبية كذلك ما يعني عدم قدرة أوكرانيا على الاستمرار وبالتالي الهزيمة أمام روسيا.
خلاصة، لقد عجزت الحكومات الغربية عن تقديم المزيد من الحجج التي تخاطب المصالح الذاتية للناخبين لضمان استمرار إرسال الأسلحة والمساعدات لأوكرانيا، ولا شك في أن صعود اليمين المتطرف في أوروبا سيكون له تداعيات مهمة في مستقبل الحرب في أوكرانيا، إذ ترى تلك الأحزاب اليمينية، أن الدعم الاقتصادي والعسكري لأوكرانيا لم يغير موازين القوى لصالح أوكرانيا ضد روسيا، وإنما أدى إلى تداعيات سلبية اقتصادية على الدول الأوروبية، كما أن كثيراً من تلك الأحزاب لا يرى في روسيا عدواً ويسعى إلى بناء سياسات تصالحية مع روسيا وعدم الانجرار وراء السياسة الأمريكية المعادية لروسيا، التي أدت إلى عسكرة أوروبا وجعلها ساحة للتوترات الجيوسياسية مرة أخرى بعد أن ظلت لعقود بعد الحرب العالمية الثانية تنعم بالاستقرار. إذ ترى تلك الأحزاب أن أمريكا تستخدم الفزاعة الروسية، لتحقيق مصالحها وإخضاع أوروبا تحت عباءتها الأمنية وعدم اعتماد أوروبا على ذاتها في الدفاع عن نفسها. لذلك، ربما ستتجه الدول الأوروبية خلال صعود اليمين المتشدد إلى تقليل الدعم العسكري والاقتصادي لأوكرانيا على خلاف الفترة الماضية التي قدمت فيها أوروبا دعماً عسكرياً واقتصادياً سخياً لأوكرانيا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.