كما كان متوقعاً، فقد اكتسح اليمين الانتخابات التشريعية الفرنسية، وباتت لوبان قاب قوسين أو أدنى من تحقيق حلمها في رئاسة الجمهورية، فزعيمة اليمين المتطرف في فرنسا مارين لوبان وجوردان بارديلا رئيس حزب التجمع الوطني الفرنسي، فبحسب وزارة الداخلية تصدر حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف وحلفاؤه، نتائج الدورة الأولى من الانتخابات التشريعية المبكرة، حاصداً 33.1 في المئة من الأصوات، متقدماً على تحالف اليسار (28 في المئة) وكذلك معسكر الرئيس إيمانويل ماكرون (20 في المئة).
توضح هذه النتائج بجلاء التغيير الطارئ على المجتمعات الأوروبية، فلم تعد الليبرالية مرجعية ذات أولوية عند الفرنسيين والإيطاليين والألمان، وباتت القومية والدولة القُطرية حلم الأوروبيين، ما يعني فشل الليبرالية نظرياً وتطبيقاً، وتراجع العالم الغربي عن الديانة الليبرالية التي اتخذت الدولة إلهاً، عكس ما يروج له في صالونات العلمانيين وكتاباتهم، وما يؤكد كلام الكاتب الفرنسي "باتريك دينين" في كتابه "لماذا فشلت الليبرالية؟".
يقول الكاتب في ص 29: "لقد تحطمت الوعود التي قطعها مهندسو ومبتكرو الليبرالية جميعها تقريبا…فقد خلقت أمراضاً هي في الوقت نفسه تشوهات لادعاءاتها…هي فلسفة سياسية أطلقت لتعزيز قدر أكبر من العدالة والإنصاف…لكنها في الواقع والممارسة تولد انعدام المساواة هائلة…وتقوض الحرية".
لم يعد هذا مجرد تكهنات رجل ربما كاره لليبراليين وأجندتهم وبات اليوم واقعاً لا مفر منه، فحتى في الدولة التي تُعتبر قطباً الليبرالية، أثبت ترامب أن الخطاب الشعبوي والمتطرف أمسى خياراً للأمريكيين الذين ظلوا لأكثر من 250 سنة يمجدون الليبرالية ومنظريها.
ليس الأمر بالمستغرب بالنسبة للكثيرين، بل الغريب أن رجلاً مثل ماكرون ينادي بالوقوف في وجه اليمين المتطرف وخطابه، وهذا ما يمكن أن نستشهد به في قضية سقوط الليبرالية وتهافت روادها، أوليس الرئيس الفرنسي من ظل يُـردد طيلة فترته الرئاسية مصطلحات من قبيل الإسلام السياسي وأزمة الإسلام والهوية الفرنسية ومبادئ اللائكية لكومونة باريس؟
طيلة فترته الرئاسية لم يترك ماكرون فرصة إلا لينتقد الإسلام، وها هو اليوم يتفاجأ بتصدر اليمين المتطرف!
لقد راهن ماكرون على خطابه المعادي للإسلام، معتقداً أنه بذلك يجذب شريحة واسعة من الفرنسيين، لكنه وقع في شر أعماله، وعوض أن يستميل الناخبين، قادهم نحو الأحزاب اليمينية التي لابد وأنها شاكرة لماكرون وخطاباته.
مصير المهاجرين واللاجئين
يطرح الناس أسئلة حول ملف المهاجرين واللاجئين، ويتساءلون حول مصيرهم، وكأن الحكومات الحالية توزع الورود عليهم، رغم أن المتابع للأحداث سيقرأ عن إبعاد المهاجرين واللاجئين عن باريس عبر إرسالهم إلى مدن بعيدة، وسيقرأ عن الانتهاكات التي يتعرض لها المسلمون في كامل التراب الفرنسي، وما قضية الحجاب عنا ببعيدة، ولهذا أجد في التخوف من السياسات اليمينية سذاجة.
سيقول قائل أن الانتهاكات ستزداد، وهذا ممكن بل هو ما سيحدث غالبًا، إلا أن ذلك لن يكون أمراً مستحدثاً أو بدعة لم يفعلها الفرنسيون والأوروبيون من قبل، بل هو استمرارية أو ربما تسريع للأحداث، فإن كان ماكرون وحزبه سيصلون إليها في عشرين سنة فاليمين سيجعلها خمس سنوات فحسب، وهذا إنجاز يحسب لليمين في نظر الفرنسيين؛ الذين باتوا ينظرون للمهاجرين بنظرة ازدراء، ويكنّون في صدورهم حقداً تجاه كل ما هو أجنبي، ويتوقون إلى عودة الجمهورية الأولى والثانية.
في طاجيكستان البلد ذو الغالبية المسلمة، حيث يمثل المسلمون 99% من مجموع الشعب، يُمنع الحجاب ويمنع الاحتفال بعيد الفطر والأضحى، كما يُشدد على الصلاة، والسبب هو وجود رئيس علماني، فكيف ببلدان غير مسلمة ومعظم شعبها مسيحي أو ملحد.
على المسلمين التفكير في وضعيتهم داخل بلدانهم الأصلية أولاً، ففي كل بلد عربي يتعرض المسلمون للمضايقة وتتعرض شرائع الإسلام للهجوم من طرف الحكومات أو بعض أذنابها من العلمانيين، وحين ينتهي المسلمون من هذا، يمكنهم آنذاك التفكير في وضعية المهاجرين، أما نقاش المهاجرين وهم يعيشون وضعًا يكادون معه يصبحون أقلية في بلدانهم فإنني أراه ترفا.
انتقال العدوى
ليست أوروبا وحدها من شهدت صعود التيار المتطرف، ففي مصر تتردد منذ مدة طويلة كلمات "اللاجئون والقومية المصرية والكيميت…"، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي ظهرت شخصيات تدعو بشكل علني إلى طرد كل لاجئ على الأرض المصرية، باعتبار مصر للمصريين فقط، وهكذا الحال في تركيا، إذ يتعرض السوريون لهجوم بين الفينة والأخرى؛ ولعل أحداث الاثنين شاهدة على ذلك، فقد تعرّضت محلات السوريين في ولاية قيصري إلى التحطيم بعد أن ادعى أحدهم تحرش السوريين بفتاة تركية، واتخذ المتطرفون ذلك مبرراً للهجوم على كل ما هو سوري!
لا ينكر أحد كون العنصرية جزء من النفس البشرية، وهذا الجزء لا يستطيع حتى الإسلام القضاء عليه، ومع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شديد اللهجة مع كل إشارة عنصرية، ورغم أن المسلمين انضبطوا لمدة ليست بالهينة، إلا أنهم سرعان ما عادوا كل يدافع عن قبيلته، بل إن الدول التي حكمت المسلمين بنيت على العنصرية القبلية كما يشير ابن خلدون "العصبية القبلية"، بيد أن ما نشهده يفسر بالعامل الاقتصادي في المقام الأول، فالأزمة الخانقة التي تلت فترة كورونا، وما تبعها من فقدان لفرص الشغل وتضخم، عجلت بارتفاع أصوات العنصريين وانتشار عدواهم في أوساط المجتمعات المسلمة وغير المسلمة، فقد بات هناك شبه إيمان لدى هؤلاء بأن اللاجئين والمهاجرين جزء من الأزمة الاقتصادية، بل يُتهم اللاجئون في مصر بأنهم أصل الأزمة، وبترحيلهم ستصبح مصر سنغافورة ثانية، وهذا الخطاب أعجب كثيرًا السلطة المصرية، كونه يغطي على سنوات من الفساد وإهدار المال العام، ومشاريع لا طائل منها، ولعل ترحيل أربعة سوريين من مصر يوم الاثنين خير برهان.
هل تبخرت الأحلام؟
هنا وهناك حديث عن فقدان للأمل في عالم الغد؛ في عالم السلام، وخوف من المستقبل، وكأن البشرية كانت في بحبوحة ورغد، والحقيقة أنها كانت كذلك، فالبشرية التي يكتبون عنها ليست العالم الثالث بل العالم الأول، لهذا هم مستغربون ومتوجسون جدا، ولك أن تعود لتصريحاتهم أثناء بداية حرب أوكرانيا وروسيا، ألم يصرحوا أن هذا لا يجب أن يحدث للأوروبيين، وأن هذا يحدث فقط في العالم الثالث.
لهذا لا يجب أن يخاف العالم الثالث من المستقبل فقد كان الحاضر ولم يكن الماضي القريب بتلك الروعة، بينما يجب على الرجل الأبيض أن يتحسس رأسه، فيبدو أن الرغد الذي عاشه الفرنسي لسنوات سيختفي قريباً، مع صعود اليمين وطرد شركاته من القارة السمراء، وسيعمل الأمريكي طيلة حياته ليدفع الضرائب ويدعم الاحتلال الإسرائيلي.
بالنسبة لي، انتهى كل شيء بحدثين، الأول لم أَشهده والثاني تابعته لحظة بلحظة، أما الأول فهو احتلال فلسطين في عام 48، وطرد الفلسطينيين من أرضهم، وأما الثاني فكان مشهد الطائرات وهي تقصف بغداد في 20 مارس 2003، كنت حينها صغير السن لكني أيقنت أن العالم لن يرى سوى الحروب والأزمات، فبغزو أمريكا وحلفائها للعراق أيقنت أن الذين يسيطرون على العالم اليوم هم حفاة الشياطين، وأن العصر عصرهم، وأن أمامنا سنوات طوال حتى ينتهي هذا العصر وتنتهي معه مآسي الإنسان.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.