كان صعود اليمين المتطرف في الدورة الأولى للانتخابات النيابية الفرنسية، التي أجريت في 30 يونيو/حزيران الماضي، ليصبح حزب التجمع الوطني القوة السياسية الأولى في فرنسا (29.25 بالمئة من عدد الأصوات)، أمراً متوقعا بشكل كبير، بل أمراً بديهياً، في نظر المراقبين الملمين بالحياة السياسية الفرنسية.
ولم تكن نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي في ٩ حزيران الماضي، إلا أحد المؤشرات التي سبقت ذلك، ولا سيما أنها كانت قد شهدت تقدما تاريخيا لحزب التجمع الوطني برئاسة مارين لوبين، وللائحته برئاسة جوردان بارديلا.
وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد حلَّ، على إثر صدور نتائج الانتخابات الأوروبية، بكثير من الاستعجال والارتجال وسوء التقدير، الجمعية الوطنية الفرنسية، وذلك بحجة ضرورة العودة إلى الناخبين من أجل "إيضاح" الصورة، آملا بأن ينال حزبه أكثرية مطلقة، أو أقله عدد نواب أكبر من عدد النواب الذين كان قد نالهم في انتخابات 2022 التشريعية، التي حصلت بعيد إعادة انتخابه رئيسًا للجمهورية لولاية ثانية.
أراد ماكرون أن يلعب مرة جديدة لعبته المعهودة، واضعًا الناخبين أمام الأمر الواقع: "أنا، أو اليمين المتطرف!"، ولكن هذه المرة جرت الرياح بما لا تشتهيه سفن الرئيس الفرنسي.
صعود تاريخي لليمين المتطرف
عديدة هي أسباب التصويت الكثيف لصالح التجمع الوطني في 30 يونيو/حزيران: هي مزيج من النقمة على الحاضر، والخوف من المستقبل، فالحنين لماضٍ مثالي متخيل، ولا سيما لتاريخ هوياتي (بتعبير المؤرخ الفرنسي جيرار نوارييل) يتم اللجوء إليه كنتيجة لكل ذلك.
لا تبدأ هذه الأسباب بالخوف من أعداد المهاجرين الوافدين إلى فرنسا، ولا سيما من الرهاب الناتج عن تضخيم أرقام الهجرة الوافدة، وعن شيطنتها، ناهيك عن نظريات المؤامرة التي تحاك حولها، كالاستبدال الكبير؛ ولا تنتهي هذه الأسباب بالشعور بعدم الأمن بسبب تزايد عدد الجرائم، مع الربط التعسفي بين تزايد عدد الجرائم من جهة، وتزايد عدد المهاجرين من جهة أخرى؛ مروراً بتراجع القدرة الشرائية بفعل التضخم المستمر منذ أزمة جائحة كورونا.
أما في الشق المباشر من المشهد، فقد جاء هذا التصويت الكثيف لحزب التجمع الوطني كترجمة لشعور عارم بالغضب، لدى الناخب الفرنسي، على الرئيس إيمانويل ماكرون، ولا سيما على أسلوبه المتعجرف، والفوقي، والمتسلط، في التعاطي السياسي وفرض "الإصلاحات"، ولا سيما تعديل نظام التعاقد الذي أقدمت عليه حكومته سنة 2023.
ولا بد من ذكر الإعلام الذي لعب دورًا أساسيًا في تطبيع صورة اليمين المتطرف في العشرين سنة الماضية، وساهم بديناميكية كبيرة في صعوده الدراماتيكي في السنتين الأخيرتين، ولا سيما بفضل إعلام الثري "فانسان بولوري".
أما الدور الأكثر خطورة في تطبيع صورة اليمين المتطرف وصعوده، فلقد لعبه كثير من خصومه السياسيين، ولا سيما رؤساء الجمهورية المتعاقبين وحكوماتهم، خصوصًا منذ نيكولا ساركوزي، وصولاً لماكرون نفسه، وذلك من خلال انتهاجهم سياسة "الركض وراء التجمع الوطني" الذي فرض عناوينه الإيديولوجية على الحياة السياسية الفرنسية (ولا سيما الإسلاموفوبيا وشيطنة المهاجرين)، وقد قدم له خصومه، على طبق من فضة، نصرًا إيديولوجيًا بعد نصر إيديولوجي، كما حصل مع قانون الهجرة الجديد الذي قدمه وزير الداخلية جيرالد دارمانان في أواخر سنة 2023، والذي أبطل المجلس الدستوري الفرنسي الكثير من بنوده لمخالفتها الدستور.
ائتلاف الأحزاب اليسارية يواجه و"الوسط" الماكروني يتقهقر
من جهة أخرى، وكنتيجة لما تقدم، فإنّ تصدّر تحالف اليسار ("الجبهة الشعبية الجديدة" المؤلفة من أحزاب: فرنسا الأبية، الاشتراكي، الشيوعي، الخضر، الجديد المناهض للرأسمالية) كان أمرا مستبعدا، بطبيعة الحال.
ولكن هذا التحالف استطاع أن يفرض نفسه، بوقت قياسي (أقل من 3 أسابيع)، كالقوة السياسية الثانية في فرنسا، محققا نسبة تصويت معتبرة لصالح مرشحيه (27.99 بالمئة من عدد الأصوات)، في تقدم عن الانتخابات التشريعية السابقة في 2022، وأن يحد بذلك من صعود اليمين المتطرف.
فصعود اليمين المتطرف كان ليصبح كارثيا في الدورة الأولى من الانتخابات التشريعية، لو لم تأتلف أحزاب اليسار الأساسية فيما بينها (بظرف أقل من 24 ساعة بعيد حل الرئيس الفرنسي للجمعية الوطنية في 9 يونيو/حزيران الماضي)، ضمن هذه الجبهة الشعبية الجديدة، وذلك لصد مد حزب التجمع الوطني واحتوائه، خصوصًا أنّ ماكرون كان يراهن على استمرار الحال كما كانت عليه أثناء انتخابات البرلمان الأوروبي في انقسام اليسار الفرنسي، آملا بأن يستفيد حزبه من هذا الانقسام لزيادة عدد نوابه.
أما حزب الوسط الماكروني، فتقهقره كان أيضاً متوقعاً من قبل المراقبين، لكن هذا التقهقر جاء مدويًا ودراماتيكيا (20.04 بالمئة من عدد الأصوات)، أي بدرجة فاقت التوقعات، وهو أمر جعل خسارة ماكرون لرهانه في حل الجمعية الوطنية خسارة مهينة وتاريخية.
ماذا عن الدورة الثانية يوم الأحد المقبل، وما بعدها؟
هل يستطيع اليمين المتطرف أن يحقق أكثرية مطلقة من عدد النواب (النصف زائد واحد: 289 مقعدا)، فيتبوأ جوردان بارديلا رئاسة الحكومة عن حزب التجمع الوطني، في مساكنة مع ماكرون؟
أم أنّ حزب مارين لوبين لن يحقق إلا أكثرية نسبية؟ التحدي كبير، فبارديلا سبق وصرح انه لن يقبل أن يكلف في رئاسة الحكومة، في حال فوز حزبه بأكثرية نسبية فقط.
تتوقف الإجابة على هذا السؤال على كيفية تصرف الأحزاب الأخرى.
فمباشرة عند صدور النتائج الأولية مساء 30 يونيو/حزيران، أعلنت أحزاب اليسار بوضوح ودون مواربة، شعورها منها بالمسؤولية التاريخية الملقاة على عاتقها أمام خطورة ما يحدث، سحب مرشحيها في الدوائر الانتخابية التي حصلوا فيها على نسبة اقتراع أقل من مرشحي الأحزاب الأخرى المنافسة لحزب التجمع الوطني (ولا سيما أحزاب الوسط، ويمين الوسط: الجمهوريين)، وتجيير أصوات ناخبيها لصالحهم، وذلك لقطع الطريق على مرشحي التجمع الوطني اليميني المتطرف.
ولكن على جانب أحزاب الوسط ويمين الوسط (الجمهوريين)، فما زال الالتباس سيد الموقف في هذا الخصوص، وكل يغني على ليلاه.
ففي حين دعا الرئيس ماكرون، ورئيس حكومته غابريال عتال، إلى قطع الطريق على اليمين المتطرف، تعالت كثير من الأصوات داخل ائتلاف ماكرون وحزبه، رافضة التفضيل بين أي مرشح على قوائم ائتلاف اليسار (الجبهة الشعبية الجديدة) في حال كان هذا المرشح من حزب "فرنسا الأبية" (بقيادة ميلانشون، الحزب الذي يتهمونه بالتطرف، ولا سيما بمعاداة السامية، وبدعم الإرهاب، وذلك لتصديه للانتهاكات الإحتلال الإسرائيلي في حق الفلسطينيين وحقوقه في الحرب الجارية في غزة منذ 7 أكتوبر 2023)، وبين أي مرشح عن حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف بقيادة مارين لوبين من جهة أخرى.
أما يمين الوسط (أي ما تبقى من حزب الجمهوريين، على إثر انقسامه وانضمام عدد من مرشحيه للوائح التجمع الوطني)، فقرر عدم دعوة ناخبيه للتصويت لأي مرشح من ائتلاف الجبهة الشعبية الجديدة، أو من حزب التجمع الوطني.
إنّ هذا الالتباس، في حال عدم تبديده في الساعات القادمة، كفيل بأن ينال التجمع الوطني أكثرية مطلقة في الدورة الثانية، المزمع إجراؤها يوم الأحد في 7 يوليو/تموز، وأن يشكل جوردان بارديلا على إثر ذلك حكومة يمينية متطرفة.
وبجميع الأحوال، فإنّ هذا الأسبوع حاسم من أجل التوعية والتعبئة والحشد، ولا سيما لصالح مرشحي الجبهة الشعبية الجديدة، أو لمن ينسحبون لصالحهم، وذلك للحد قدر المستطاع من الضرر المتمثل بصعود اليمين المتطرف.
أما في حال تحقق السيناريو الثاني، أي حصول التجمع الوطني على أكثرية نسبية فقط، فماذا سيفعل ماكرون عندئذ؟
هل سوف يشكل حكومة "ائتلاف وطني" بين "الأحزاب المعتدلة" من كل طرف، أي بين حزبه (وسط) من جهة، والأحزاب اليسارية التي يعتبرها معتدلة (أي الاشتراكي، والشيوعي، والخضر) من جهة ثانية، وبقايا يمين الوسط (الجمهوريين) من جهة ثالثة؟
هل سيقبل الاشتراكي، والشيوعي، والخضر، المشاركة في حكومة كهذه، وفك تحالفهم مع "فرنسا الأبية" ضمن الجبهة الشعبية الجديدة؟
وهل سيقبل الجمهوريون، من جانبهم، المشاركة في حكومة على هذا الشكل، وبشروط قسم من أحزاب الجبهة الشعبية، وبرنامجهم الذي يختلف اختلافًا جذريًا عن برنامج الجمهوريين، ولا سيما فيما يتعلق بالاقتصاد، والأمن، والهجرة؟
وهل تستطيع حكومة كهذه أن تكون متآلفة وأن تحكم فعليًا؟ أم أنه سوف تسيطر على أجوائها المناكفات ـ أي على الطريقة اللبنانية، وستنفجر بعد فترة وجيزة؟
من جهة أخرى، وأمام تشظي متوقع للجمعية الوطنية، يجعل من الحكومة ضعيفة وغير قادرة على الحكم، هل سيعتبر ماكرون عندئذ أنّ البلد يمر بظروف استثنائية، تخوله تفعيل المادة 16 من الدستور التي تعطيه صلاحيات مطلقة (pleins pouvoirs)؟
وأمام إمكانية تعطّل عمل الحكومة، هل يحل ماكرون الجمعية الوطنية مرة جديدة بعد سنة من الآن (الدستور يُلزمه بانتظار مدة سنة قبل أن يستطيع حل الجمعية الوطنية لمرة جديدة)؟
الأسئلة كثيرة، وكبيرة، ومحيّرة، ولكن الأكيد أنّ فرنسا دخلت في مرحلة عدم استقرار سياسي، وذلك حتى آخر عهد ماكرون في 2027 على أقل تقدير، وهي أزمة حكم، بل ربما أزمة نظام (الجمهورية الخامسة) سوف تترافق مع أزمة مديونية كبيرة مرتقبة، في ظل مشهد دولي بالغ التعقيد، مما من شأنه أن يجعل من الدور السياسي الفرنسي يتراجع في العالم، ولا سيما قدرتها في التأثير على الملفات الدولية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.