منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، والدولار الأمريكي يحتل مكانة العملة العالمية الرئيسية، حيث تفوق على الجنيه الإسترليني وفقاً لاتفاقية "بريتون وودز" عقب الحرب العالمية الثانية، بمبادرة من 44 دولة، التي جاءت مدعية لتنظيم التجارة العالمية وتحقيق نوع من الاستقرار المالي الدولي، ونصت حينها على "اعتماد الدولار الأمريكي" كعملة رئيسية لتحديد أسعار عملات الدول الأخرى، وكان الدولار حينها مرتبطاً بالذهب عند سعر 35 دولاراً للأونصة.
وخلال سبعينيات القرن الماضي، أطلق الأستاذ إبراهيم عويس من جامعة جورجتاون تعبير "البترودولار" ليصف الدولارات التي تُدفع مقابل النفط. وفي العام التالي، أبرمت المملكة العربية السعودية اتفاقاً مع إدارة الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون لتسعير صادراتها من النفط بالدولار الأمريكي. الاتفاق شمل أيضاً شراء المملكة لسندات الخزانة الأمريكية، وتبعتها في ذلك عديد من الدول، مما عزز ارتباط تسعير النفط بالدولار وضرورة الاحتفاظ بالاحتياطيات الأجنبية بالعملة ذاتها.
لكن يبدو اليوم، أن هذه السيطرة الدولارية تواجه في الوقت الراهن تحديات عديدة قد تقوض موقعه التقليدي كأساس للمعاملات المالية الدولية.
ماذا لو قررت السعودية بيع نفطها بعملات أخرى غير الدولار؟
كانت اتفاقية السعودية مع الولايات المتحدة على تسعير وبيع النفط بالدولار الأمريكي نعمة للعملة الأمريكية، إذ كانت مساهماً أساسياً في ترسيخ الدولار كعملة احتياطية عالمية، نظراً للدور البارز الذي تلعبه المملكة العربية السعودية في تجارة النفط العالمية، فقد كان للاتفاق تأثير بعيد المدى.
فقد أدى هذا إلى ضمان الطلب المستمر على الدولار، حيث كانت كل دولة في حاجة إليه لشراء النفط. ودعم هذا الطلب على الدولار سياسات "الاقتراض والإنفاق" التي تنتهجها الحكومة الأمريكية، إلى جانب عجزها الهائل. طالما احتاج العالم إلى الدولارات لشراء النفط، فقد ضمن الطلب عليها. وهذا يعني أن بنك الاحتياطي الفيدرالي أصبح قادراً على طباعة المزيد من الدولارات وإصدار المزيد من سندات الخزانة مقارنة بما كان ليفعله لولا ذلك.
وهذا يجعلنا نسأل: ماذا لو فتحت المملكة السعودية الباب اليوم أمام بيع النفط بعملات أخرى غير الدولار؟! هذا لا يعني أن السعودية ستتوقف عن قبول الدولار مقابل النفط، إذ إن هناك الكثير من اللاعبين المؤثرين الآخرين في هذا الميدان الذين من المرجح أن يستمروا في الاعتماد على الدولار. لكن هذه الخطوة، ربما تفتح الباب أمام مبيعات النفط بعملات أخرى، بما في ذلك اليوان الصيني، وإذا ابتعدت السعودية عن الدولار، فمن المرجح أن تحذو دول أخرى حذوها.
بحسب وكالة "سبوتنيك" الروسية للأنباء، فإن "نحو 80% من مبيعات النفط العالمية يتم تسعيرها بالدولار. ومع ذلك، فإن روسيا وإيران والسعودية والصين وغيرها من الدول تتحول بشكل متزايد إلى العملات المحلية في تجارة الطاقة. بمعنى أنه الآن يتم شراء حوالي 20 % من النفط العالمي بعملات أخرى.
ففي أعقاب بدء الأزمة الروسية – الأوكرانية، ومع توالي العقوبات الاقتصادية من الغرب على روسيا، أعلنت موسكو أنها ستبيع نفطها بالروبل، وفق شروط معينة، وبالفعل تمت صفقة لبيع النفط من روسيا إلى الهند على أن يكون الدفع بالروبل الروسي، وذلك كان خلال شهر مارس/آذار 2023. وقد شهد الشهر نفسه الإعلان عن عزم السعودية دراسة تصدير جزء من نفطها للصين باليوان. بالإضافة لذلك، من المرجح أن تعزز عضوية السعودية في كتلة بريكس العلاقات الاقتصادية بين البلدين.
والبريكس هي كتلة تعاون اقتصادي تتكون في الأصل من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا. اعتباراً من 1 يناير/كانون الثاني 2024 ، توسعت الكتلة لتشمل المملكة العربية السعودية ومصر والإمارات العربية المتحدة وإيران وإثيوبيا. وقد أعربت أكثر من 40 دولة أخرى عن اهتمامها بعضوية مجموعة البريكس.
وخلال قمة البريكس، طُرحت دعوات لتعزيز استخدام العملات المحلية في التسويات التجارية والمالية، بهدف معالجة التحديات الناجمة عن هيمنة الدولار الأمريكي، الذي يُعتبر منذ عقود العملة الأساسية للمعاملات المالية والتجارية الدولية.
وتشير الأرقام الخاصة بقاعدة البنك الدولي إلى تصاعد مستمر في نصيب دول تكتل "بريكس" من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، بنسبة تصل إلى 25%، وكذلك بلوغ حصتها من الصادرات السلعية العالمية 20%، وفي الواردات السلعية العالمية 15.9%.
وبحسب بيانات منظمة "أوبك"، تنتج السعودية في اليوم 10 ملايين برميل نفط يومياً في الظروف الطبيعية، بينما تنتج الإمارات متوسط 3.5 مليون برميل، وإيران 3.8 مليون برميل، وروسيا 10 ملايين برميل يومياً، والبرازيل نحو 2.8 مليون برميل يومياً، والصين تنتج متوسط 4 ملايين برميل يومياً. وهذا يعني، أنه بإمكان دول المجموعة إنتاج قرابة 35 مليون برميل يومياً من النفط الخام، أي نحو 34 % من حجم الطلب العالمي على النفط الخام يومياً.
لذلك، يمكن القول إنه إذا ما قررت السعودية بيع نفطها بعملات أخرى غير الدولار، قد تُحدث تحولاً كبيراً في ديناميكيات الاقتصاد العالمي، على الرغم من أن آثارها الكاملة على التجارة والتمويل الدوليين لا تزال غير واضحة.
التداعيات المحتملة لزوال البترودولار
فنهاية البترودولار قد تؤدي إلى تسريع عملية تدهور للدولار كعملة عالمياً، وهذا من شأنه أن يشكل مشاكل كبيرة بالنسبة للاقتصاد الأمريكي. في حين أن الاتجاه الحالي نحو إزالة الدولرة لا يهدد بشكل مباشر دور الدولار كعملة احتياطية عالمية – ومع ذلك – فإنه قد ينذر بمشاكل أكبر في المستقبل، وخاصة إذا تسارعت وتيرة ذلك.
فالدولار بالفعل على أرض مهتزة. وموخراً، باتت العديد من الدول تبحث عن طرق لتقليل الاعتماد على الدولار بسبب المخاوف المتزايدة بشأن استخدام أمريكا للدولار كسلاح في السياسة الخارجية. وخصوصاً بعد الحرب الروسية – الأوكرانية، وقد حذرت جيتا جوبيناث، النائبة الأولى لمديرة صندوق النقد الدولي، من أن العقوبات المفروضة على روسيا قد تؤدي إلى تآكل هيمنة الدولار من خلال تشجيع الكتل التجارية الأصغر حجماً على استخدام عملات أخرى. وهذا هو بالضبط ما نشهده.
وبدون دعم البترودولار للعملة الأمريكية، قد نشهد المزيد من التسارع في نزع الدولرة. وحتى أولئك الذين يقللون من أهمية أي تهديد لمكانة الدولار باعتباره عملة احتياطية عالمية يعترفون بأن انتهاء اتفاقية البترودولار قد يضعف الدولار على المدى الطويل. ومن شأن ذلك أن يمتد إلى الأسواق المالية الأمريكية، وخاصة سوق السندات. كما أنه سيؤدي إلى المزيد من تضخم الأسعار للمستهلكين الأمريكيين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.