في عصر يتوق فيه العالم للمعرفة والفهم، يتعامل الإعلام الغربي مع الأحداث الدولية بمنطق ازدواجي يخلو من العدالة. تتمتع هذه المؤسسات بتاريخ عريق في صناعة الأخبار، مدعومة بسمعة "الموضوعية" التي تزعم تبنّيها. ومع ذلك، تظل هذه الصحف والمحطات الإخبارية، لا سيما في تغطيتها للحروب والصراعات مثل الحرب في غزة، محكومة بمنظور يخدم بشكل رئيسي مصالح السياسة الخارجية لدولها.
لكن هذا الانحياز ليس وليد اللحظة بل هو نتاج تاريخ طويل من التحيزات المماثلة التي تتجلّى في تغطية الأحداث من فيتنام إلى العراق. إذا نظرنا إلى الطريقة التي تعالج بها هذه المؤسسات قضايا مثل الصين، روسيا، والهند، يتضح النمط الثابت للتركيز على الروايات التي تصب في مصلحة بلدانها الأصلية ومموليها.
فمنذ اندلاع حرب الإبادة الوحشية على غزة، يُمكن العثور على آلاف الأمثلة التي تُظهر التحيز الصارخ في الإعلام الغربي، ولنأخذ مثالاً بسيطاً من صحيفة نيويورك تايمز، حيث يقول عنوانٌ: "الحرب والأمراض قد تقتل 85 ألف فلسطيني في غزة خلال ستة أشهر". بشكل فج قرر محررو الصحيفة تجاهل أن الكارثة المحتملة من الأمراض ونقص المياه والموت المتفشي ليست سوى نتائج مباشرة للحرب الشاملة التي تشنها إسرائيل من البر والجو والبحر، بالإضافة إلى الحصار الخانق المفروض على غزة منذ أكثر من نصف عام، وكأنهم يحاولون تحميل غزة بمن فيها وزر ما يحدث، وتبييض وتبرئة المحتل بعدم ذكر اسمه في العنوان.
حتى في عمق تفاصيل المقالات، حيث يفترض أن الدقة والشفافية هما من صلب العمل الصحفي، نجد أن صحيفة "نيويورك تايمز" تتجنب بمهارة ذكر المسببات الرئيسية للحرب. فالفقرة الافتتاحية، أو ما يعرف بـ"المقدمة" في قواعد الصحافة الأمريكية، والتي يفترض أن تلقي الضوء على جوهر الخبر وتجذب القارئ، تخلو تماماً من أي إشارة لإسرائيل. هذا الإغفال ليس سوى مثال صارخ على كيفية تناول الأخبار بمنظور يخفي الأسباب الجذرية للمعاناة. يُعامل الفلسطينيون كضحايا لسوء الحظ العارض، وكأن ما يحدث من قصف يعد من قبيل الكوارث الطبيعية التي لا تقل عن الزلازل والأعاصير، وكأن الكوارث الطبيعية تشمل أمطاراً من القنابل أمريكية الصنع أيضاً.
مثال آخر، هو نزع الإنسانية عن الفلسطينيين، فبعد مرور الأسبوع الأول من الحرب، سجلت الإحصاءات أن حصيلة القتلى الفلسطينيين قد تجاوزت تلك الإسرائيلية المُعلنة من قبل دولة الاحتلال. مع هذا، فإن تكرار ذكر الفلسطينيين في الإعلام الغربي ظل نادراً، والأدهى من ذلك هو طريقة وصفهم في النقل الإخباري. فمثلاً، اتبع صحفيو "BBC" نمطاً في التغطية يميل لاستخدام أوصاف مُجهّلة مثل "أناس" أو "أشخاص" أو حتى تجاهل ذكر المبتدأ كلياً، كما في الجملة "150 ماتوا اليوم في غزة جرّاء العمليات الإسرائيلية العسكرية". في المقابل، تُصوّر التقارير القتلى الإسرائيليين بأسماء وأوصاف تعكس علاقاتهم الأسرية والاجتماعية مثل "أم" و"جدة" و"صديق" و"أخ" و"ابن" و"حفيدة".
هذا التفاوت في العرض يُظهر نزع الإنسانية عن الفلسطينيين بشكل متعمد. من خلال تصوير الفلسطينيين كمجرد "أناس" أو "أشخاص" دون علاقات أسرية أو اجتماعية معينة؛ ما يجعل من الصعب على المتلقي تكوين أي رابط إنساني أو شعور بالتعاطف تجاه معاناتهم، كأن هذه الأرواح البشرية المفقودة قد جاءت من العدم وعادت إليه.
حتى اليوم، تظل من المألوف رؤية الإعلام الغربي، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، يستخدم عبارة "حرب إسرائيل وحماس" في عناوينه، متجاهلين بشكل متعمد الحقيقة الأساسية بأن غزة ليست دولة بحد ذاتها لتخوض حرباً "مع" إسرائيل كما في الحروب النظامية بين الدول. ولا تعد حماس جيشاً نظامياً يمكن مقارنته بأحد أكثر الجيوش تجهيزاً في المنطقة. بل إن ما يُوصف بـ"القطاع" ليس إلا منطقة متناهية الصغر على الخريطة، محاصرة لأكثر من عقدين وتحت سيطرة الاحتلال الإسرائيلي.
المثير للدهشة أن محرري هذه المؤسسات يبدون كما لو أنهم لم يطلعوا على القانون الدولي، حيث يتغاضون عن حقيقة أن إسرائيل تحتل الضفة الغربية وغزة في انتهاك صريح لقرار مجلس الأمن 242. هذا يجعل من إسرائيل، من منظور صحفي محض، مصدراً مشكوكاً فيه للمعلومات والأرقام عما يحدث لمن تحتلهم. ووفقاً لواقع الاحتلال، ينبغي اعتبار حماس حركة مقاومة وفقاً للقانون الدولي، بغض النظر عن موقف وسائل الإعلام الأجنبية من أساليبها. ومع ذلك، لا تجري معالجة أي من هذه الجوانب بشكل فعال في التغطيات الإخبارية.
يكشف دايا ثوسو، أستاذ الصحافة والاتصال السابق في جامعة غولدسميث البريطانية، عن بنية ذهنية ترتكز على أسس استعمارية تشكل العمود الفقري لتغطية الإعلام الغربي للقضايا الدولية. يعتقد ثوسو أن الأيديولوجيات المتجذرة تهيمن بشكل غير معلن على العملية التحريرية لكبرى الصحف مثل "نيويورك تايمز"، التي يصفها بأنها "صحيفة صهيونية"، مشيراً إلى أن عدم إدراك هذا الواقع يعني العيش في عزلة عن الحقائق الملموسة. وفقاً لثوسو، نحن غالباً ما نركز على الجوانب الفنية في تقييمنا للأداء الصحفي، لكن الصحافة لا تعمل في فراغ، بل تُشكّل وتتأثر داخل نظام ثقافي وسياسي واقتصادي محدد. هذا الفهم يساعد على توضيح سبب تغطية بعض القضايا بطرق محددة، ولماذا يغلب عليها طابع معين.
لقد فتحت الحرب في غزة، أعين الصحفيين والجمهور العربي على ضرورة إعادة النظر بشكل جذري في تعاطينا مع الصحافة الغربية، وصار واضحاً أننا أبناء الجنوب في حاجة ملحة لتحرر من الروايات المفروضة والمهيمنة، بشتى الطرق والوسائل الأكاديمية والمهنية، بالإضافة إلى ذلك، يستدعي الأمر إعادة تقييم المعايير الأخلاقية التي استوردناها من الغرب وأسست طريقة تفكيرنا وتقريرنا الإعلامي. من الضروري تطوير مدونات أخلاقية عربية تتجاوز مجرد الترجمة والتكييف للمعايير الغربية مثل الدقة والموضوعية والحياد، لتشمل معايير تتلاءم مع واقعنا العربي المعقد، حيث يشكل فشل التنمية، والاحتلال، والقمع السياسي، عناصر رئيسية في نسيج حياتنا اليومية. هذا التوجه الجديد سيمكننا من صياغة رواياتنا الإعلامية بشكل يحترم خصوصياتنا ويعكس حقيقة تجاربنا، مُفسحاً المجال لصوت عربي مستقل وقوي في مشهد الإعلام العالمي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.