لم تعد التكنولوجيا مجرد أدوات تسهيل في حياتنا اليومية، بل أصبحت تمس الجذور العميقة للطريقة التي نعيش بها، تحولت إلى ركيزة أساسية تشكل معظم جوانب الوجود الإنساني في عصرنا الحديث. إن الاعتماد المتزايد على التكنولوجيا يبرز الدور الحيوي الذي تلعبه في تحديد كيفية تفاعلنا، عملنا، وحتى كيفية تفكيرنا.
ففي الشبكة الواسعة التي نسجتها التكنولوجيا حول عالمنا، تكمن ثنائية معقدة تحمل في طياتها النور والظلمة معاً. من خلال عدسة عالم الاجتماع الألماني "أولريش بيك" ورؤيته لـ"مجتمع المخاطر العالمي"، تتجلى التكنولوجيا ليست فقط كمعين لبناء مستقبل مشرق، بل كمولّد لمخاطر جديدة تتسلل بصمت إلى نسيج حياتنا اليومية والاجتماعية.
التواصل البشري، على سبيل المثال، كان للتكنولوجيا دور الساحر في إزالة الحدود بين الأمكنة والأزمان، ممهدة الطريق أمام تدفق لا ينقطع من التفاعلات الإنسانية. هذه الحرية الجديدة في التواصل لا تخلو من سحرها، حيث فتحت آفاقاً للتعاون والابتكار تعد بثمار وافرة، ولكنها في الوقت نفسه، عرت الأفراد لرياح المخاطر التي قد تهب بغتة من أروقة العالم الرقمي.
فالخصوصية والأمان الرقمي، تلك القلاع التي بُنيت لحماية حياتنا الخاصة وسريتنا، أصبحت تحت تهديد دائم من الاختراقات التي لا تعرف حدوداً أو ولاءات. هذا التحول الهائل، الذي أتاح للمعلومات أن تطير بلا قيود، جعل من الصعب الإمساك بزمام الأمور والحفاظ على سرية وأمان البيانات الشخصية.
بينما في مجال التعليم، قد أحدثت التكنولوجيا ثورة تتجاوز الحواجز الجغرافية، ما مكّن الطلاب من الوصول إلى معارف وثقافات متنوعة بشكل غير مسبوق. ومع ذلك، تجلب هذه الإمكانيات تحديات تتعلق بجودة ومصداقية المعلومات، وتؤثر على الطريقة التي يتم بها تقييم المعرفة واكتسابها.
وإذ نظرنا في القطاع الصحي، رغم التحسينات الهائلة التي قدمتها التكنولوجيا في جودة وكفاءة الرعاية الصحية، إلا أنها أيضاً تنطوي على مخاطر تتمثل في إمكانية التعرض للأخطاء الطبية الرقمية وتعقيدات حماية البيانات الصحية.
من ناحية أخرى، تساهم التكنولوجيا في تفاقم بعض المشكلات الصحية كالسمنة وقلة النشاط البدني بسبب الاعتماد المفرط على الأجهزة الرقمية، ما يثير تساؤلات حول تأثيرها الطويل الأمد على الصحة العامة.
هذا الانغماس في التكنولوجيا يجلب معه مخاوف متزايدة تتعلق بالأمن والخصوصية، حيث إن الوصول الأسهل إلى البيانات الشخصية يزيد من المخاطر المرتبطة بالاختراقات والقرصنة الإلكترونية، ما يتطلب منا جميعاً نهجاً جديداً وأكثر وعياً للتعامل مع هذه التحديات في إطار "مجتمع المخاطر" الذي نعيش فيه.
في عالمنا اليوم، حيث تعبر الزمان والمكان دون عناء، يجد الإنسان نفسه محاطاً بأدوات تنير مسارات معرفية جديدة وتفتح أفقاً لا نهاية له من الفرص. لكن في ظلال هذه الأفق المتلألئ، يكمن وجه آخر، أقل إشراقاً وأكثر إثارة للقلق. أولريش بيك، في نظريته عن "مجتمع المخاطر العالمي"، يرسم لنا صورة لعالم يتقاطع فيه الابتكار مع الإشكاليات الغامضة، حيث تتداخل النعم والنقم بخيوط دقيقة.
في ثنايا الحياة اليومية، أعادت التكنولوجيا تشكيل تفاعلاتنا الاجتماعية بطرق تحمل في طياتها ذرات من العزلة، مثل البلور الذي يعكس ويُعتّم في آنٍ معاً. الرسائل النصية ومحادثات الفيديو، على سحرها وفعاليتها، أدت إلى تقليص اللقاءات الإنسانية التي كانت فيما مضى تنسج معاني القرب والألفة. وهكذا، بينما نكتسب السرعة في الاتصال، نخسر بعضاً من دفء اللقاء الحقيقي.
أما في عالم العمل، فقد قدمت التكنولوجيا هداياها العديدة في شكل إنتاجية معززة وكفاءة مطورة، لكنها أيضاً نسجت بخيوطها الدقيقة شباكاً من البطالة وفجوات اقتصادية متسعة. ما كان يوماً مصدر رزق للعديد من الأيدي العاملة أصبح الآن في قبضة الآلات الذكية والروبوتات، مخلفاً وراءه سراباً من الوظائف المفقودة.
في هذه الأثناء، يقظ بيك عيوننا على الكوارث الطبيعية والتأثيرات البيئية التي تتراكم كالسحب في أفقنا الجمعي، حيث الاستخدام المتهور للتكنولوجيا يمكن أن يؤدي إلى تغييرات مناخية غير قابلة للرجوع وتدهور في نوعية الحياة البيئية. الأجهزة الإلكترونية، مع كل ما تقدمه من فوائد، تركت بصماتها الكربونية على صفحات كوكبنا.
في ظلال نظرية "مجتمع المخاطر العالمي" لأولريش بيك، تتشكل خريطة جديدة لعالمنا، حيث تتحدث الظروف المتغيرة بلغة جديدة، لغة المخاطر التي لا تعترف بحدود الدول ولا تميز بين غني وفقير. إن هذه المخاطر، التي بدأت تتسرب إلى نسيج حياتنا بالتزامن مع عولمة الاقتصاد، قد صارت تشمل كل شبر في هذا العالم، وتهدد كل من يسكن عليه.
مع تطور الأزمنة، تحولت مخاطر مثل التغير المناخي، والتهديدات النووية، والنفايات الكيميائية الخطرة إلى أشباح تجوب العالم دون استئذان، وفق ما يرصده بيك. وكما لوحظ مؤخراً، فإن محاولات تقييد هذه المخاطر، مثل تلك التي تقوم بها الشركات العابرة للقارات في إنتاجها الغذائي، غالباً ما تظل محاولات يائسة تغرق في بحر الربح الفوري دون النظر إلى عواقبها البعيدة الأمد.
ومع أن الأزمات مثل جائحة فيروس كورونا قد أظهرت بجلاء قدرة هذه المخاطر على اختراق كل الحواجز، فإنها أيضاً كشفت عن العيوب الجوهرية في النظام العالمي الذي يعتمد على التفرد الليبرالي بدلاً من التضامن الإنساني. هذه الجائحة لم تستثنِ أحداً؛ فالجميع، من الأغنياء الذين لجأوا إلى ملاذاتهم الآمنة إلى العمال الذين تكبدوا مشقة الرحلة اليومية عبر وسائل النقل العام، واجهوا الخطر على قدم المساواة.
أمام هذا الواقع، يطرح بيك في كتابه "الفردانية: الفردية المؤسسية وعواقبها الاجتماعية والسياسية"، الذي شاركته في تأليفه زوجته إليزابيث بيك، فكرة التضامن كبديل للفردية الليبرالية. يقترح بيك أن المواجهة بدلاً من التطبيع أو التعايش مع المخاطر قد تخلق إحساساً عالمياً جديداً بالمسؤولية المشتركة، حيث يتعين على البشرية التكاتف لمعالجة هذه التحديات معاً.في نهاية المطاف، لا يمكن إنكار أن التكنولوجيا قد أحدثت ثورات عميقة في كل جانب من جوانب حياتنا، فتحت آفاقاً جديدة وقدمت حلولاً مبتكرة، لكنها أيضاً أثارت تحديات لم تكن معروفة من قبل. السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو كيف يمكننا، كمجتمع عالمي، أن نستخدم هذه التقنيات لتعزيز الخير العام والحد من الآثار السلبية للتقدم، وكيف يمكن للتضامن أن يحل محل الانقسام في معالجة التحديات المستقبلية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.