في عالم كنا نظنه قرية صغيرة، لكنه أضحى كالمسرح الكبير، يلعب فيه كل فرد دوره بين كواليس الحياة ولا يأبه بموت غيره البعيد، ترتسم مأساة على أرض فلسطين، حيث الأصوات المبحوحة والأنفاس الحبيسة تشكل سيمفونية القهر التي تعزفها أيادي الإمبراطورية الأمريكية وحلفاؤها. العالم الذي كان يزعم يوماً أنه قد وصل إلى قمة التضامن البشري، يقف اليوم متفرجاً، بل متخاذلاً أمام مشهد يندى له جبين الإنسانية.
في زمن كان يُفترض أن يكون عصراً أكثر تواصلاً، يجد البشر أنفسهم يبتعادون تتراجع خطواتهم إلى الوراء حيث يموت الأبرياء جوعاً ليس لسبب إلا لأن القائمين على إدارة العالم يريدون ذلك. فمع دخول عدوان الاحتلال الإسرائيلي على غزة شهره التاسع، ترتفع الأصوات الدولية والأممية محذرة من كارثة إنسانية قد تعصف بحياة الملايين، لكن دون جدوى.
بينما يستمر إصرار الاحتلال الإسرائيلي، بمباركة الإدارة الأمريكية، على إدخال أكثر من مليونين من البشر إلى نفق المجاعة ليس كسياسة ممنهجة للتجويع. وما يوميات القصف والدمار والمجازر الدامية التي راح ضحيتها الآلاف، إلا تأكيد أن الحرب على الفلسطينيين هي إبادة جماعية تتم بأحدث الأسلحة.
فعلى الرغم من قرارات مجلس الأمن الدولي وأوامر محكمة العدل الدولية بوقف العدوان وتحسين الوضع الإنساني في غزة، يواصل الاحتلال جرائمه، متجاهلاً النداءات العالمية. بينما يعيش الفلسطينيون في غزة كارثة لم يكن يتخيلها إنسان حي اليوم، حيث الجوع ليس صار مثل صواريخ الاحتلال شبحاً يطارد الأبرياء في شوارع غزة، بل قد دخل إلى كل بيت ومأوى، ينهش أكباد الأطفال وأجسادهم النحيلة ووجوههم الشاحبة، وكأن العالم لا يرى شيئاً، مواصلاً حياته بطريقة طبيعية.
هذا المشهد المرعب والأليم: إلى أي مدى يمكن أن يذهب العالم في تجاهله للأبرياء؟ وهل بات الجوع سلاحاً شرعياً في حروب العصر الحديث؟
في تقريرها الأخير، قالت منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسف" إن الأسر في غزة تعجز عن سد رمق أطفالها بالغذاء الكافي، حيث إن 9 من بين كل 10 أطفال في غزة يعانون من نقص خطير في الغذاء، وإن سوء التغذية يزيد من الخطر على الحياة في قطاع غزة.
أما في شمال قطاع غزة المدمر، فقد صارت الأعشاب البرية وبعض المعلبات التي خبئت لأوقات الشدة، زاد العائلات الأخير. وفي ظل شُحّ الخضراوات والفواكه واللحوم مع تشديد الحصار، يزداد الوضع كارثية، وتتفاقم مخاطر سوء التغذية بشكل مستمر.
وقد سُجلت في الأشهر القليلة الماضية، خاصة في شمال القطاع ومدينة غزة، وفيات مؤلمة بين الأطفال تعدت الـ40 طفلاً، بينما ينتظر شبح الموت نحو 3500 طفل آخرين يعانون من نقص التغذية واللقاحات، في ظل استمرار الحصار الإمبراطوري.
إن قطاع غزة ينزلق نحو أتون المجاعة بخطى متسارعة، في ظل استمرار الاحتلال الإسرائيلي بمباركة الإمبراطورية الأمريكية لقطع السبل توصيل أدنى الاحتياجات الإنسانية التي يمكن أن تبقي الفلسطينيين على قيد الحياة، فالميناء العائم الذي شُيِّد على سواحل غزة كان لأغراض دعائية أمريكية بحتة، ولم يعدُ كونه وسيلة لتعزيز استمرار الاحتلال في سياساته الإبادية في بقطاع غزة، إذ تشير التقديرات إلى أن أغلب الأفراد البالغين في غزة قد فقدوا ما بين 10 إلى 15 كيلوغراماً من أوزانهم، في ظل غياب ملحوظ للجهود الدولية الرامية إلى كسر جدار الصمت هذا.
ينمو الغضب حولنا، وتقصف الأسئلة على رؤوسنا حول مسؤولية حكامنا؟! هل عميت أعين العالم عن رؤية تلك الحرب البشعة والمجازر الدموية يحق شعبنا على يد الاحتلال؟ هل صمت الآذان عن سماع صرخات الأطفال الفلسطينيين الذين يموتون جوعاً تحت وطأة الحصار؟ كيف يستطيع الحكام والرؤساء النظر في المرآة كل صباح، عالمين أن بإمكانهم، إذا شاؤوا فعلاً، دفع الاحتلال والإدارة الأمريكية والدول الغربية لوقف هذا العدوان الوحشي؟!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.