صحب تطور أدوات الإعلام وتداول المعلومات تطور في طبيعة وشكل الخطاب الديني أو "الوعظي" المُسقى للجمهور في مجتمعاتنا، وخاصة الشباب منهم، فأبناء جيلي عرفوا الدعاة التقليديين الذين وقفوا على المنابر يبشرون وينذرون، ويتكلمون في أمور الدين والدنيا وما صلح وما فسد من أحوال البلاد والعباد، ومع ظهور القنوات الفضائية أطل علينا خطاب ديني جديد ووعاظ جدد، لا يرتدون الملابس الوعظية التقليدية ولا يعظون الوعظ التقليدي، بل يقدمون خطاباً عصرياً يتكلم بلغة العصر ويضع مشكلات العصر في بؤرة الاهتمام، والحقيقة، قد راقني، كما راق للكثيرين من الآباء والأبناء، مظهرهم وكلماتهم ولغة أجسادهم، لكني لاحظت الشبه الكبير بينهم وبين الوعاظ البروتستانت، ثم تطورت أدوات الإعلام من القنوات الفضائية إلى وسائل التواصل الاجتماعي وتطور معها الشكل الخطاب الوعظي إلى بعض أنماط الإعلام الجديدة كـ "فلوجز" أو "بودكاست".
الدعاة الجدد قبل وبعد الربيع العربي
يكتسب الوعاظ البروتستانت الأمريكيين شهرتهم بين الجمهور الأمريكي، عن طريق وسائل دعائية حديثة تشبه تلك التي تخدم أغراضاً تجارية، فكانوا يعقدون الندوات والمؤتمرات التي يحضرها الآلاف، وما يمكن أن تلاحظه في الخطاب الوعظي البروتستانتي أنه قليلاً ما يتطرق إلى الأمور الدينية الغيبية كالجنة والنار والحساب ونزول الملائكة، ولكن جلّ تركيزه على أمور الحياة وضرورة إصلاح النفس وتهذيبها من أجل صلاح المجتمعات وتماسك الأسر والحقوق المدنية وضرورة الكد والاجتهاد من أجل مستقبل أفضل.
وهنا في شرقنا، صار الخط الفاصل بين الديني والدنيوي في خطاب "الدعاة الجدد" الذين ظهروا وذاع صيتهم قبل "الربيع العربي" دقيقاً جداً، فأصبح الشبه بينهم وبين الوعاظ البروتستانت الأمريكيين شديد التقارب. فعلى سبيل المثال، ربما يمكن أن يتذكر أغلبنا خطاب الداعية، عمرو خالد، وكيفية قراءته للسيرة النبوية، وكيف كان يشرح أن النبي محمد ﷺ مجتهداً، صاحب رؤية استراتيجية، يركز على تحقيق أهدافه، وأننا يجب أن نقتدي به في حياتنا العملية على نفس النحو. والحقيقة أن قراءة السيرة والتعاليم الدينية على هذا النحو كانت جديدة "تريندي" وشيقة وأكثر ملاءمة لما يحتاجه الجمهور من أجل إصلاح حياتهم، فنحن لم نقرأ سيرة النبي ﷺ على نحو كهذا من قبل، ولم نلتف أبداً إلى كون الرسول ﷺ "ناجحاً" أو "عملياً"، إذ كان ينصب فهمنا على كونه باراً، تقياً، مؤمناً ومتوكلاً على الله. لكن بعد أن انتشر ذلك الخطاب الديني وتصوراته، بدأ يأخذ منحى أكثر مادية، بالتماهي مع رسائل التطوير الذاتي وكتب ومؤتمرات التنمية البشرية التي تأخذ الشخصيات الناجحة كنماذج للتحليل والاقتداء.
هذا التشابه الشكلي وربما الجوهري بين الخطابين الديني البروتستانتي و"الإسلامي الحديث" -إذا صح التعبير- أثار اهتمامي وأخذني إلى لمحة جدلية تاريخية قد تشرح بعض هذه الأعراض.
الجدلية التاريخية
لنقل إن الإنسانية قد عبرت محطات تاريخية شكلتها العلاقات الاقتصادية وأدوات الإنتاج وحدود الظرف التاريخي والاجتماعي، وعلى الرغم من جاذبية وبريق الاعتقاد بأن التطور التاريخي هو تطور أيديولوجي، بمعنى أن الإنسانية اتخذت قراراً واعياً بأن تسلك مسلكاً أيديولوجياً محدداً بناءً على الإدراك والوعي التاريخيين، ما دفع حركة التاريخ من حلقة إلى أخرى أكثر تطوراً، إلا أن هذه المقولة قد تواجه عدة تفنيدات، منها مثلاً: ما الذي يغير الوعي الإنساني وإدراكه لما حوله؟ ولماذا لم يفطن إلى كذب رجال الكهنوت أو فساد معتقدهم الذي اعتقدوه أو فرضوه على شعوب أوروبا فرضاً في العصور المظلمة؟ ولماذا تطلب الأمر ما يزيد على أربعة عشر قرناً لكي تثور شعوب أوروبا على سيطرة الكنيسة على العصور المظلمة؟ وهل عدم التاريخ أي محاولة للتصدي لهيمنة الكهنوت المسيحي؟
الكشوف الجغرافية والإصلاح الكنسي
الحقيقة أن المسيحية في أوروبا شهد ثورات إصلاحية عدة فشلت فشلاً لعله مبرراً بالنظر لمواتاة الظرف التاريخي لقوة وهيمنة الكنيسة، لكن يمكن القول إن التغيير الأكبر حدث بالتزامن مع حدوث تغيرات مادية واقتصادية ضخمة، مثل الكشوف الجغرافية وما لها من أثر على علاقات الإنتاج، ولعل ذلك، ما دفع بتنامي نوع من الوعي التاريخي بضرورة إحلال أيديولوجية الكنيسة بأيديولوجية أخرى أكثر مرونة واتساقاً مع الظرف الاجتماعي والاقتصادي والتاريخي الجديد، فعلاقة الإقطاع التي حكمها نموذج الإنتاج الزراعي وارتباط كل من الفلاح والنبيل بالأرض المزروعة تركت المجال واسعاً أمام تعريف الحقيقة بأنها ملكية النبيل للأرض والفلاح وعمله وأحقيته في توريث جميع مع سبق لخلفائه، ولكن الكشف الجغرافي عن إمكانية الدوران حول الأرض، فنصل إلى الهند عن طريق الغرب، صدم هذه الحقيقة بمطرقة على أعلى رأسها فأفقدها وعيها وتركها تترنح حتى قضت عليها الثورة الفرنسية تماما في عام 1789، وبلا شك أن الكشف عن تلك الثروة الملاحية أحدث ثورة في حركة التجارة وأصبح التاجر طرفاً ثالثاً في علاقة الفلاح-النبيل التقليدية، طرفاً استكشف طرق الملاحة الجديدة وفضائل الحرية، العمل، الاجتهاد، الادخار ومراكمة الثروات التي زاحمت قيم الكنيسة الموروثة: الزهد، التصوف، مراقبة الرب، الخضوع والتسليم بأقدار الله.
أخلاق العمل البروتستانتية
بالتالي، يمكن أن نربط ربطاً منطقياً بين قيم الكنيسة وخطاباتها الاجتماعية التي تسبح في تيار الإقطاع وتبرره، فطبيعة رأس المال والمتحكم في أسلوب الإنتاج آنذاك، لم تكن لترحب بأشياء مثل الطموح والرغبة في النجاح أو الحرية، بل واعتبرتها خطراً؛ أما مع اكتشاف الموارد والأسواق في العالم الجديد، كان يوجد رغبة لقيم تستغل الظرف التاريخي، فدفع لترويج قيم دينية مرصعة بأشياء عن النجاح، الطموح، العمل والادخار؛ ولذلك أدت الثورة الدينية في القرن الرابع عشر، بمجمل مطالبها إلى تخفيف سطوة رجال الدين على شؤون الحياة المختلفة من سياسة واقتصاد وأخلاق، وبالتالي تخفيف سطوة الدين نفسه ونزعه من المركز وإحلاله بقيم العمل، وكذلك نزع الكنيسة من مركزها وإحلالها بالمؤسسات الدولتية والديمقراطية التي تتطلب -على الأقل- تحييد الاعتراف اللاعقلاني بألوهية الرب وقدرته، والتي قد حكمت في وقت سابق بالفصل الطبقي بين الفلاحين والنبلاء ورجال الدين، فحقيقة الثورة الدينية أنها لم تكن ضد الدين نفسه، ولكنها ضده باعتباره الانعكاس الأيديولوجي والأخلاقي لمصالح الإقطاعيين، ولذلك فيمكن للقارئ أن يرى التماهي الحاصل بين تباشير الدين وأخلاقه من ناحية ومصالح الطبقات النافذة وأصحاب المصالح من ناحية أخرى في حالة الكنيسة وفي حالة الثورة على عليها.
أمريكا تنتظرنا عند نهاية التاريخ
وقد تساءل المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما عن سبب قوة ونضج المؤسسات والديمقراطية الأمريكية وتأخر وضعف مثيلاتها في دول أمريكا اللاتينية وإسبانيا والبرتغال مثلاً، فعرض فوكوياما تفسير خلال كتابه "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" يجادل بأن المجتمعات التي حافظت على أصولها الكاثوليكية حالت أخلاقها واعترافاتها الضمنية بألوهية الرب والغيبيات وتعاليمها الدينية بينها وبين نمو الاقتصاد ونضج الديمقراطية، لأن الديمقراطية "لا تتسلل من الباب الخلفي" على حد تعبيره، "ولكنها تحتاج إلى قراراً واعياً"، وعلى الرغم من أنني لا أستطيع أن أتجاهل العوامل التاريخية التي حافظت على أمريكا اللاتينية كاثوليكية ودفعت الولايات المتحدة إلى البروتستانتية، إلا أني أرى بوضوح الرغبة في تصدير النموذج العملي البروتستانتي الذي يدعي فوكوياما بأنه جاء بالخير والرخاء على الولايات المتحدة ومن حذا حذوها، فصار تحييد القيم الدينية التقليدية تقليداً، وصار تحييد الدين ديناً، وذلك ربما يفسر ما قد يراه البعض "حرباً على الإسلام" تحديداً، وذلك لأن المسلمين، وإن كانوا منبهرين، بل ومهزومين، أمام التقدم الغربي التقني والمعرفي، فإنهم مازالوا قادرين على التمييز بين ما هو قيم إسلامية وغير ذلك.
الفردوس الأرضي
ولذلك، أرى أن النمط البروتستانتي لدين لا يهدف إلى علمانية شاملة تلغي الوجود الديني تماماً، ولكنها تكتفي بإعادة صياغة الديباجات الدينية لتكون أكثر عملية وبراجماتية وليبرالية وعقلانية ومنصرفة جزئياً أو كلياً عن الغيبيات والحساب والجنة والنار، فالفردوس هو ما يستطيع أن يحققه الإنسان بعمله وذكائه على الأرض "الآن وهنا"، وهنا يمكن الإشارة إلى التعبير الذي استخدمه الدكتور والمفكر المصري عبد الوهاب المسيري في كتابه "الفردوس الأرضي" للتعبير عن العودة إلى المقولة الجاهلية "إنما هي حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين"، وإذا اتفقنا على طرح أن الأخلاق البروتستانتية انعكاس أيديولوجي لمصالح الطبقة الرأسمالية النافذة، فحينها سنرى كيف يبرر الآن ذلك الخطاب البروتستانتي الرأسمالي باعتباره نموذجاً عملياً يفيد الإنسان الذكي المجتهد المتطور، دون عرقله إيمان أو لاعقلانية أو غيبيات، بل يمكن أن نعيد تعليب الإسلام، أو ما تبقى منه، إلى مصنع اليبرالية الرأسمالية العقلانية، فنصنع خطابات تضع السيرة النبوية المشرفة على إطار كسيرة أحد الرجال الناجحين، والزي الإسلامي "براند" وصناعة المحتوى يمكن أن تكون دينية في صورة واعظ ذكي ومدرب تنمية بشرية في نفس الوقت، أو "فلوجر دين" كما يسميهم أحد الأصدقاء، مع الوضع في الاعتبار أن صناعة المحتوى هو عمل يتمركز حول الشهرة، وبالتالي، الربح، وهذان مرتكزان قد يتعارضان مع جوهر الرسالة الدينية التي ليست بالضرورة تدعو إلى تنمية الذات أو النمو الاقتصادي، وبالطبع لا تهدف إلى لبرلة القيم والمجتمعات.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.