لقد خرج الناس من رمضان بصفحة بيضاء نقية تحتاج أن يُكتب فيها إنجازات الطاعة وروائع العبادات، ولكن للأسف كتب الكثيرون فيها بمداد المعصية وحبر الغفلة وأقلام التقصير، لقد خرجت بطاريات الإيمان من رمضان ممتلئة ولكنها لظروف الحياة كادت أن تنتهي وتحتاج لشحن إيماني جديد، وها هي أيام العشر الأوائل من ذي الحجة، خير زاد وخير معين، جاءت في وقتها، وهذا من رحمة الله بنا، لأنه يعلم تقصيرنا وضعفنا، يمد إلينا من خلال هذه النفحات حبل نجاة لنتمسك به وننجو من وحل الدنيا.
إن هناك رحمات ونفحات تأتي على صورة أيام، وهناك هدايا تأتي على هيئة فضائل أعمال، وهناك ألطاف تجدها في إقبالك على الطاعات في خير الأوقات، ومن هذه الهدايا أيام العشر الأوائل من ذي الحجة، أعظم أيام العام، فقد أقسم الله بها في كتابه، ولا يقسم العظيم إلا بعظيم" والفجر، وليال عشر". وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام" يعني أيام العشر. قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله، فلم يَرْجِعْ من ذلك بشيء". رواه البخاري.
إن البطولات الكبرى الدنيوية يقتصر فيها التنافس على الموجودين في الميدان، بينما بطولة الأيام العشر الأخروية لا تقتصر على الحجاج الموجودين في ميادين الحج، فالدعوة عامة، كلنا مدعون للمشاركة في البطولة، فقد يفوز النازح في الصحراء أو المسافر الداعي في السماء أو العامل في أي مكان كان، وهذا من فضل الله، فلنغتنم هذه الأيام ولنقبل الهدية ونشكر الله عليها، والشكر يكون بالعبادات والقربات:
الله أكبرُ.. كَم في العُمْرِ مِن مِنَحٍ وكم لَهَوْنا فضاعت تِلكمُ المِنَحُ
هذي هيَ العَشْرُ والرحمنُ فَضَّلَها يا ويحَ مَنْ أدركوها ثُمَّ ما رَبحوا
ونَضَّرَ اللهُ أقواماً ذوي هِمَمٍ فيها إلى صالح الأعمال قد جَنَحوا
كثيرون من الصحابة عرفوا أن الآخرة هي المستقر وفيها الحياة، فألقوا التمرات في بدر، كما فعل عمير بن الحمام، واشتموا رائحة الجنة في أحد كما فعل أنس بن النضر، وها هو عكاشة فاز بذهبية المغفرة لأنه سارع بطلبها، وقد كان بإمكان الرسول أن يدعو لمن طلب الدعاء بعده، ولكنه أراد أن يعلمنا أهمية السباق وفضله "والسابقون السابقون أولئك المقربون".
وأيام العشر الأوائل من ذي الحجة مضمار رائع للسباق، فيه فرص كبيرة للفوز والعتق وزيادة رصيد الحسنات، فإن كان الحجاج قد أقبلوا على الله في بيته، فكل بيوت الأرض بيوته، وإن كانوا سيرمون الشيطان في مناسكهم بالجمرات، فلنرمه نحن بالاستغفار ومناجاة الله بالعبرات، وإن كانوا يطوفون حول البيت ولم تتح لنا الفرصة هذا العام، فلنطف حول الأيتام والمساكين وأبناء المظلومين والنازحين مساعدين وواصلين وداعمين، وإن كانوا سيسعون بين الصفا والمروة مكبرين مهللين، فلنتحرك بين الناس داعين ذاكرين واصلين مصلحين.
الأيام العشر أيام خير وبركة وذكر ودعاء، فخطط لاغتنامها، ونظم وقتك، واستغل كل لحظات الأيام العشر في الذكر والعبادة، وجدد فيها توبتك، وعد فيها إلى مصحفك، وصم ما استطعت وخاصة يوم عرفة، صل فيها رحمك، واجعل لك من قيام الليل أكبر نصيب، واعلم أنها أيام ذكر فتنافس في الذكر والتسبيح والتحميد والتهليل، فقد كان ابن عمر يدخل إلى السوق في العشر ويكبر ويكبر الناس من خلفه.
الأيام العشر أيام دعاء ورجاء، فأكثر من الدعاء وخاصة يوم عرفة، فهو يوم الدعاء والمناجاة، واعتكف فيه بقلبك، وتعامل مع نهاره كما تتعامل مع ليالي القدر، ولا تنس المكروبين وأهلهم من دعواتك.
وأخيراً اعلم -رعاك الله- أن أيام العشر الأوائل من ذي الحجة فرصةٌ لكل مسارع للخيرات ولكل تائب أرهقته العثرات ولكل منهك من الذنوب والهفوات، فعلينا أن نستثمر الفرصة وندخل السباق، لنخرج منه فائزين منتصرين على أنفسنا ومعاصينا وتقصيرنا، فهل ترضى أن يفوز غيرك وتخسر أنت؟! أو يُعتق جارك وتُترك أنت؟!
أترضى أن تكون رفيق قوم لهم زادٌ وأنت بغير زادِ
جعلنا الله وإياكم من الفائزين والمقبولين
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.