طليطلة المدينةُ الأندلسيّة الّتي سَقطت بتخاذِلِ العُملاءِ، ووحشيّة الدّخلاء في عامِ 1085، أي قبل سقوط الأندلسِ بشكل كليّ بأربعِمئة عام، دخلَها ألفونسو السّادس متوحّشاً، بل إن بعض الروايات تشير إلى تواطؤ بعض ملوك الطوائف مع ألفونسو مثل المعتمد بن عباد ملك إشبيلية القريب والجار لطليطلة حين تفاهم مع ألفونسو على تركه لمحاربة بني ذي النون في طُليطلةُ، وما أشبه الليلة بالبارحة.
طليطلة من أوائل المدن الّتي سقطت بعد سنوات قليلة من سيطرت ما يسمّى بملوكِ الطّوائف، حتّى إنّ معركةِ الزلّاقة العظيمة عام 1086، وانهزام ألفونسو السّادس لم تساعد في تحريرها، لكن رغم الجِراح نُظِمت قصيدةٌ مجهولةُ القائِل يرثي ناظِمُها طُليطلة، يتأسّى على أهلِها وما حصل بهم، وكأنّ الجهل بناظمها يؤكد أنّها مرثيّة لجميع الأزمان، خصوصاً أزمنة العار المتعاقبة. لكن أين التشابه والاختلاف بين زمنِ طُليطلة، وزمن غزّة؟ إنّ طُليطلة (TOLEDO) والتي تعني "فرح ساكنوها" شيّد العربُ حضارتهم فيها، وسقوطها كان يعني الكثير، لعلّ القصيدة تمثل سرداً لاستشراف مآسي المدن في الحروب، وهنا سنقدّم قراءة لما أسميه نصّ الواقع أي النصّ التي تزول زمنيّته بتشابه الأحداث، وهو كذلك ذلك النص التي تنزاح تاريخيته بمجرّد قراءته وربطه بالواقع الآن.
بين طليطلة وغزة
تبدأ القصيدةُ ببيت شعرٍ يحاكي حال العرب وهم يشاهدون مدن غزة تتساقط بيد المحتلّ، كما بدت ثغور الأندلس تتساقط: لِثَكْلِكِ كيْفَ تبتسِمُ الثّغورُ ** سُروراً بعدَما سُبِيتْ ثغورُ
كيفَ؟ تلكَ الأداة الاستفهاميّة التي يُسأل بها عن الحال والتي وجب أن تُسقَط من نحوِ عُروبَتنا، فالحالُ واحدة: همومٌ وتعاسة، وكيفَ السّرور وغزّة ومدنها تُستباحُ بيد المحتلّ الإسرائيلي. طليطلة شكلت صدمةَ التّاريخ وفق رؤية الشاعر، يتأسّفُ الشّاعر قبل ألف عام على ألف عام مضت، وألفُ عامٍ بعدَها والحال هو الحال: فَيَا أسَفاهُ، يا أسَفاهُ حُزناً ** يُكرَّرُ ما تكرّرَتِ الدّهورُ
إنّهُ الحُزن المستمرّ الّذي لا يزول، ويبقى في الصّدر يتعاظم مع تعاظم المصائب، ويتراكم بتزايد الخُذلان، لا سَعادة تُساعِدنا لتكسر هيبةَ مآسينا، ولا حياءَ يخجلُ من كرامتنا المنسيّة. يستطرد راثي طليطلة مُحدِثاً مقاربة بينَ القوط والقشتال ومسلمي الأندلس، وكأنّه يقارن بين الصهاينة ومسلمي عصرنا، يقول: نُذورٌ كانَ للأيّامِ فيهم ** بِمهْلَكِهِمْ فَقَدْ وَفَتِ النّذورُ
فإنْ قُلْنَا العُقوبَةُ أدْرَكَتْهم ** وجاءَهُم مِن اللهِ النَّكيرُ
فإنّا مِثْلُهُم وأشدُّ مِنْهُم ** نَجورُ وكيفَ يَسلَمُ مَنْ يَجورُ
وكأنّ الشّاعِر يقولُ: لا فرقَ بينَ المحتل وداعميه من بعض العرب اليوم؛ فإن كانوا المحتلين ظالمين فإنّ هولاء المتواطئين أشدّ منهم ظلماَ، فمآسي أهل الشام، ومآسي العراق، ومآسي مصر، وزد على ذلك ما حلّ باليمن وليبيا، وما يحدث بالسودان من ظلم الحكام على المحكومين، فكيف يسلمُ من كان ظالماً لأهلِه، ويدعو الشّاعر لموتِ العربِ من كان حاكماً في وقتها، كما ندعو الآن الموت للحكّام: ومُوتُوا كُلّكُم فالموتُ أوْلَى ** بِكُم مِن أنْ تُجارُوا أو تجورُوا
لقدْ سَاءَتْ بِنا الأخبارُ حتّى** أمَاتَ المُخبِريْنَ بِهَا الخَبيْرُ
وقيْلَ تجمّعُوا لفِراقِ شَمْلٍ ** طُليْطِلة تملّكَها الكَفورُ
نعم إنها المشابهة التي لا نريد، وكيف يكون التجمع للفراق؟ مفارقة القهر والحزن أن تتملّك من بلادنا من المحتل والعرب كلهم ينظرون، ولا غرابة أنّهم صامتون، وصمتهم يسمع:
لقد صمَّ السّميعُ فلم يُعوّل **على نَبأ كمَا عَمِي البصيرُ
كانت طليطلة وإنّها غزّة الآن، أبصارنا عميت وأسماعنا صُمّت، فلا بكاء ولا عويل، ولكن أهل غزة كما أهل طليطلة صامدون لأنهم لا يدركون إلى أين الرحيل، ولماذا نترك دورنا:
كَفَى حُزناً بأنّ النّاسَ قالوا ** إلى أينَ التحوّلُ والمسيرُ
أنترك ُدورَنَا ونفرُّ عنْها؟ ** وليسَ لنَا وراءَ البحرِ دُورُ
لا وراء البحر ولا وراء الصحراء، الموت يتغلغل فاصمد في بيتك المهدوم. ولا يكفي ذلك فلا سلم مع الصهاينة نحن الصّمود، هذا خطاب أهل غزّة كما كان خطاب أهل طليطلة، رغم الجِراحات يخاطبون أبطالَ المقاومة:
ولا تجنحْ إلى سِلْمٍ وحارِب ** عَسَى أنْ يُجبرَ العَظْمُ الكسيرُ
نعم تلك كلمات أهل طليطلة لصمودهم، وكذا نداء بسطاء أهل غزة للمقاومة فلا سلم حتى ينجبر الكسر، وما المعتدي الغاشم بدخوله مدن غزة واندحاره منها إلّا تمثلّاً لهزيمته:
ونلقَى واحداً ويفرُّ جَمعٌ ** كمَا عَنْ قانِصٍ فرّت حَميرُ
نعم هكذا كانت كرامات المجاهدين في جباليا والشجاعية وخان يونس، فوجب أخذ الثأر مهما كان: خذوا ثأرَ الدّيانةِ وانصروها ** فقد حامتْ على القتلى النّسورُ
إنّه الثأر الذي نبحث، لكن من يثأر وصمتنا قاتل، وغزة تقاتل وحدها، لكن نستجير بالله، وندعوه دائماً دعاء المستكين، فكما كانت طليطلة تدعو، ها هي غزّة تدعو: ونرجُو أنْ يُتيحَ اللهُ نَصراً ** عليهِم، إنّهُ نِعْمَ النَّصيرُ
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.