كيف جعلت اليابان صدمة الحرب منطلقها لبناء حضارة تاريخية؟ (1)

عربي بوست
تم النشر: 2024/06/01 الساعة 10:51 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2024/06/01 الساعة 10:52 بتوقيت غرينتش
اليابان/shutterstock

في السادس من أغسطس عام 1945، قامت الولايات المتحدة بإسقاط قنبلة نووية على هيروشيما، تلتها بأيام إطلاق أخرى على مدينة نكازاكي، تسببت القنبلتان بمقتل أزيد من 100 ألف شخص في ذلك الحين، وما يقارب ضعفي هذا العدد توفي بسبب آثار الإشعاعات النووية

دمار شامل للمدينتين وتضرر محيطهما، قتلى وجرحى بالآلاف، نساء رملت وأطفال يتمت، أصيب البعض بإعاقات دائمة وآخرون بأمراض خطيرة.

فكيف استطاعت إمبراطورية الجزر في  فترة وجيزة أن تطوي صفحة الماضي الأليم، وتبدأ صفحة جديدة رافعة يد السلام، معلنة عن تسطيرها تاريخاً جديداً لحضارة لا تزيدها السنين إلا قوة وتميزاً؟

تقع اليابان شرق آسيا، وتلقب بإمبراطورية الجزر لأنها تشمل عدداً كبيراً جداً من الجزر، وتعتبر أربع منها رئيسية وهي: هوكايدو، كيوشو، هونشو وشيكوك، والبقية عبارة عن جزر صغرى يقدر عددها بالمئات.

كانت تعيش على هذه الجزر في الماضي طوائف وقبائل خاضت صراعات دموية فيما بينها، قبل أن تتحد بعد ذلك مكونة شعباً آسيوياً منسجماً ومتحداً، في كتابة النهضة اليابانية الحديثة، يقول المؤرخ المصري وأستاذ التاريخ سابقاً بجامعة طوكيو الدكتور رؤوف عباس:

"ورغم غموض تاريخ اليابان القديم في القرنين السابقين على ميلاد المسيح، فمن المؤكد أن صراعاً دموياً دار بين العناصر التي سكنت تلك الجزر، كان ضحيته "الأينو" أقدم سكان اليابان، فطُردوا أولاً من هونتشو ثم تجمعوا في هوكايدوا، ثم تعرضوا في أوائل عصر الميجي إلى عملية تطهير عرقي حولتهم إلى أقلية ضئيلة العدد، ظلت مهملة حتى منتصف القرن العشرين، فباتوا يقيمون في قرى معزولة بعيدة عن العمران، أما العنصران الآخران المغول والمالاو فقد وحدهما الصراع ضد الأينو على ما يبدو، ولا يعرف المؤرخون على وجه الدقة متى بدأ اندماج المغول والمالاو ليكونوا شعباً واحداً، ولعل تلك العملية استغرقت نحو قرن من الزمن أو ما يزيد على القرن ببضعة عقود".

فكيف استطاع شعب خاض أجداده حروباً دموية فيما بينهم للوصول إلى السلطة، وتم خداعهم بأساطير القداسة، وتسبب حكامه في توسيع الفوارق الاجتماعية بين طبقاته، أن يصير اليوم مثلاً للرقي والتماسك والسلام؟

تعتبر مرحلة توكوغاوا من أهم المحطات التاريخية التي عرفتها الإمبراطورية اليابانية، حيث ساهمت في التأسيس لنهضة اليابان، وتوفير مناخ اقتصادي وسياسي واجتماعي ملائم لبناء أرضية متينة للإقلاع، جنت ثمارها خصوصاً في فترة حكم الميجي، من هنا نستنتج أن التقدم الحضاري الذي عرفته اليابان لم يكن وليد محطة تاريخية معينة، بل كان نتاجاً لمجموعة من التراكمات والعمل الدؤوب المتسلسل لجيل بعد جيل، من أجل النهوض باليابان.

قبل تولي أسرة توكوغاوا زمام القيادة في اليابان، كان التعليم نخبوياً حكراً على أبناء الساموراي والنبلاء، لكن بمجرد بداية عهد التوكوغاوا تم تجاوز مسألة النخبوية، والعمل على نشر المعرفة والتعليم في صفوف الشعب الياباني بمختلف طبقاته، معتبرين أن التعليم هو الوسيلة الأنجع لنشر تعاليم الكونفوشيوسية.

وبفضل ذلك ارتفعت نسبة القراءة والكتابة في اليابان، وبلغت مستويات متقدمة لم تبلغها إلا القليل من دول أوروبا في الفترة ذاتها.

بالموازاة مع انتشار القراءة والكتابة، تزايد عدد دور النشر، وتنوعت الموضوعات التي تتطرق إليها المطبوعات بعد أن كانت تركز على الدينية فقط، وانفتحت اليابان على الثقافة الألمانية بشكل كبير، مترجمة للكتب الألمانية في مختلف المجالات، الأمر الذي سمح لليابان بمواكبة المستجدات العلمية رغم نهج قيادتها لسياسة العزلة.

وبعد انتقال السلطة سلمياً من أسرة توكوغاوا إلى أسرة الميجي ق19، انتهت عزلة دامت زهاء 250 سنة عن العالم الخارجي، معلنة بذلك عن بداية عهد جديد في تاريخ الإمبراطورية اليابانية.

عرف عصر الميجي اهتماماً كبيراً بالتربية والتعليم، ففي عهده تم بعث بعثات تعليمية إلى أوروبا، مثبتة بذلك أن الرهان على عنصرها البشري تأهيلاً وتدريباً هو السبيل للنهضة بالإمبراطورية اليابانية، فكان ثمرة ذلك أن انخفضت نسبة الأمية إلى مستوياتها الدنيا، وبلغ عدد الطلاب الجامعيين أكبر نسبة في العالم، مستطيعة بذلك أن تسد الفجوة الكبيرة التي خلفتها سياسة العزلة، لاحقة بذلك في فترة وجيزة بركب الحضارة.

تعتبر اليابان أن استمرار تفوقها مستقبلاً رهين بنجاح تعليمها، وتضع صوب أعينها هدفين أساسيين هما تخريج جيل مسؤول عن أمته ووطنه، والعمل على ضمان العيش الكريم والحياة السعيدة لكل الأطفال.

وتعتبر كذلك أن اهتمامها بهذا القطاع يزكي روح التنافسية مع باقي بلدان العالم، معبرة بذلك عن وعيها الكبير بأنه وسيلتها لتشكيل شعب ياباني قوي مساهم في تطوير الدولة الديمقراطية. ولتحقيق هذه الأهداف تسعى اليابان لجعل نظام التعليم يقدّر كرامة الفرد، ويسعى إلى غرس القيم في شعب يتوق إلى العدالة، ويحترم تقاليده وثقافته.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أميمة بونخلة
طالبة باحثة في سلك الدكتوراه تخصص حوار الحضارات.
تحميل المزيد