قبل الخوض في أي نقاش سياسي، يجب الالتزام بالمبادئ الأخلاقية التي تعتبر جزءاً لا يتجزأ من الممارسة السياسية. يتطلب هذا الالتزام استبعاد فكرة التلاعب بالنظرية الأخلاقية عند اتخاذ القرارات السياسية، حيث لا يمكن فصل السلوك الأخلاقي للأفراد عن القيم الإنسانية التي يؤمنون بها. بناءً على هذا المبدأ، يجب أن تُصنع السياسات استناداً إلى العلاقة الوثيقة بين السياسة ومؤسسات الدولة. وفي هذا السياق، تبرز مسألة قرار المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، الذي أعرب عن رغبته في إصدار مذكرة اعتقال دولية ضد رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت ومسؤولين آخرين في حكومته. هذا القرار يأتي نتيجة اتهامات بارتكابهم جرائم حرب وإبادة جماعية في قطاع غزة، مما أثار جدلاً واسعاً واختلافاً في الآراء حول مدى صحة هذا الإجراء وأبعاده الأخلاقية والسياسية والمقارنة بين حركة المقاومة حماس وإسرائيل.
تدعي وجهة النظر الأوروبية أنه لا يمكن المقارنة بين إسرائيل وحماس، وعلى هذا الأساس تعتبر اتهامات كريم خان ومقارنته بين الجانبين غير صحيحة. يدعمون وجهة نظرهم بالقول إن الاحتلال الإسرائيلي دولة ديمقراطية، بينما حماس تُعتبر منظمة إرهابية. وبناءً على هذا التفسير، يرون أنه ليس من المنطقي أن يذكر كريم خان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت بجانب زعيم حركة حماس يحيى السنوار، وقائد كتائب القسام محمد الضيف، ورئيس المكتب السياسي إسماعيل هنية. من هذا المنطلق، ترفض هذه الدول الغربية المقارنة بين إسرائيل وحماس بحجة أن إسرائيل ديمقراطية!!
إن وصف إسرائيل بالديمقراطية يتعارض بوضوح مع سجل احتلالها للأراضي الفلسطينية، مما يجعل من الديمقراطية أداةً إمبريالية في هذا السياق. ولهذا السبب، تجد بريطانيا والولايات المتحدة مبرراً لدعم إسرائيل من منطلقات إمبريالية واضحة. يظهر هذا الدعم جلياً في موقف إدارة بايدن التي تدافع عن إسرائيل وترفض أي مقارنة بينها وبين حماس. ويشارك في هذا التوجه رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك، الذي أكد أن سعي كريم خان لإصدار مذكرة اعتقال ضد نتنياهو لن يوقف الحرب ولن يؤثر على تدفق الأسلحة إلى إسرائيل، تلك التي تُعتبر ديمقراطية في نظرهم. بينما سلوكها إمبريالي في غزة.
تقوم الديمقراطية بالأساس على فلسفة العقد الاجتماعي بين الفرد والدولة، ومن هذا العقد تنبثق الحقوق التي تُضفي على الدولة معناها السياسي وتُبرر وجودها. تهدف الديمقراطية إلى حماية الملكية الخاصة للمواطنين وضمان حقوقهم وحرياتهم الأساسية. لتحقيق هذه الغاية، تتشكل الحكومة كممثل شرعي للأفراد داخل الدولة، وتعتمد على ثلاث مؤسسات رئيسية: السلطة التشريعية لسن القوانين، السلطة التنفيذية لتنفيذ هذه القوانين، والسلطة القضائية التي تتولى إصدار العقوبات اللازمة في حال انتهاك القوانين. ووفقاً للنظرية الليبرالية ورائدها جون لوك، تُعتبر هذه المبادئ حجر الأساس لنظام الحكم الديمقراطي، وتتوافق مع مبدأ فصل السلطات كما تصوره مونتسكيو، الذي يضمن عدم تركز السلطة في يد جهة واحدة ويعزز من توازن القوى داخل الدولة. إن هذه الفلسفة تُؤكد أن الحكومة ليست سوى خادم للشعب، ملزمة بحماية حرياته وحقوقه الأساسية، بما يعزز العدالة ويضمن الاستقرار السياسي والاجتماعي، ويمنع التعسف والاستبداد. هذا في حال الدولة الطبيعية بخلاف إسرائيل.
إذاً، الديمقراطية تقتضي العدالة وهي مناقضة للاستبداد، وهذا لا ينطبق على إسرائيل التي قامت على أنقاض الإمبريالية البريطانية وأوجدتها العقلانية الرأسمالية لتنفيذ مشاريعها الاستعمارية في المنطقة بأدوات استيطانية تتوسع فوق الأراضي الفلسطينية بطريقة غير شرعية، وبكل تأكيد ليست ديمقراطية، في الواقع، ما يتحدثون عنه هو الإمبريالية، وهو ما يتطابق مع توجهات هذه الحكومة اليمينية المتطرفة التي تدير الحرب في غزة، وترتكب المجازر، وتستهدف خيام النازحين بأدواتها الفتاكة. هكذا، يكشف الدعم الغربي لإسرائيل عن ازدواجية المعايير والنفاق السياسي والفكري الذي يغطي على انتهاكات حقوق الإنسان تحت غطاء الديمقراطية الزائفة.
نعود الآن إلى أصل النزاع. إسرائيل ليست دولة ديمقراطية، بل احتلال استيطاني يتفوق في قسوته على النازيين بمراحل. فهل امتثلت إسرائيل لقرار محكمة العدل الدولية الذي يطالب بانسحابها الفوري من رفح؟ وهل استمع نتنياهو ورفاقه المتطرفون لتحذيرات كريم خان، المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية؟ في جميع الأحوال، لم تحترم إسرائيل القوانين الدولية ولم تلتزم بقرارات الهيئات القضائية الدولية التي تُعنى بتطبيق القانون بين الدول. بدون هذه القوانين، نعود إلى حالة من الفوضى حيث يسود منطق القوة.
وهذا ما أكده بعض المشرعين لكريم خان في سياق تهديداتهم له قبل السعي لإصدار مذكرة اعتقال ضد نتنياهو، حيث أبلغوه بأن المحكمة مختصة بأفريقيا والدكتاتور بوتين. هذه الدول ليست ديمقراطية، بل إمبريالية، لم تتجاوز عقلية الاستعمار حتى بعد انتهاء حقبة ما بعد الاستعمار. وبالرغم من أن كريم خان انطلق من مبادئ أخلاقية سليمة وحاول تطبيق القانون بالمساواة بين جميع الأطراف، فإن العقلية الإمبريالية لا تزال تظهر بشكل خافت ومتردد في خطابه الأخير، حيث لم يستطع انتقاد إسرائيل مباشرة. يمكن تفسير ذلك ضمن سياق كلمته التي ساوى فيها بين حركة نضالية تحررية وحكومة يمينية متطرفة ومجرمة. الآن اتضحت الحقيقة؛ فحين يتحدثون عن الديمقراطية، يقصدون بها الإمبريالية. إسرائيل ليست دولة ديمقراطية، بل هي كيان إمبريالي متخصص في قتل الأطفال وإلقاء القنابل على خيام النازحين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.