بالرغم من كون مصطلح الشراكة ذا دلالة اقتصادية في أصله إلا أن بُعده السياسي طاغٍ، فلا شراكة اقتصادية قوية وحقيقية دون توافق أو تقارب سياسي، ولهذا لا تجد اتفاقات شراكة اقتصادية بين دول غير متوافقة سياسياً إلا في إطار التبعية بمنطق الغالب والمغلوب كما هي أغلب الشراكات بين الغرب والهش من الدول.
والجزائر من الدول التي تتميز بوضعها الجيوسياسي المتميز وتعدد شراكاتها مع أطراف في جوارها القريب أو مع قوى عالمية بعيدة جغرافياً لكنها حاضرة بثقلها السياسي والاقتصادي، فبالإضافة إلى علاقات الشراكة التي تربطها بالدول العربية والإسلامية، لديها شراكة بالاتحاد الأوروبي، وأخرى مع الصين وروسيا متميزة في صفتها وفي تاريخها.
وإذا كانت الصين في علاقاتها الدولية معروفة بانتصارها للبُعد الاقتصادي مع إهمال وقفز صريح على الجانب السياسي وهو منهج تتبناه ربما تحت عنوان "الصبر الاستراتيجي".
فإن شراكة الجزائر الطويلة مع روسيا شملت تاريخياً البعدين السياسي والاقتصادي، فبعد شراكة التعاون بعد الإستقلال بحكم انتصار الجزائر للمعسكر الشرقي حينها والتي غلب عليها المجال العسكري جاء الإعلان عن شراكة استراتيجية في بداية الألفية الجديدة ، ثم تطورت في يونيو 2023 إلى شراكة استراتيجية معمّقة رافقها زخم إعلامي كبير، وطبيعي في ظل تعدد الشراكات بين الدول ينتج تضارب مصالح بين الشركاء يفرض علينا المراجعة الدورية لحقيقة هذه الشراكات وتقييم مردودها الآني والمستقبلي، معتمدين أثرها في الواقع وما مدى تحقيقها لمصالحنا كعامل أساسي في التقييم ومن تم التقويم.
وهذا ما نحاول تقديره حول شراكتنا مع الروس آخدين بعين الاعتبار أنه من الطبيعي أن يختلف الشركاء حتى ولو كانوا إخوة في المقاربات والمواقف السياسية من مختلف القضايا وخاصة المستجدة منها، فها هي الهند حليف استراتيجي لأمريكا لكن علاقاتها الاقتصادية مع الصين قوية جداً على الرغم من حالة العداوة واللاسلم بينهما، وها هي تركيا الحليف العسكري التاريخي لأمريكا لكنها تخط موقفاً مخالفاً من الحرب في أوكرانيا والأمثلة هنا كثيرة، وبما أن المنطق التوافقي هو من يحكم العلاقات الدولية والكل مسلم بذلك، لذلك تستمر الشراكة في المتفق عليه.
أولاً: تصرفات تناقض مبدأ الشراكة
بالنظر إلى الأجواء المقلقة التي نشأت مؤخراً عند جيراننا وما رافقها من حرائق مسّنا بعض لهيبها المتناثر، ونظراً للدور الروسي الكبير في خلقها، يصعب علينا أن نجد تفسيراً لدورها الخطير في جوارنا الجنوبي والشرقي خاصة وما يحمله من تهديدات مباشرة على أمننا واستقرارنا، مقابل تأكيدات موسكو المتكررة على العلاقة الحيوية وعلى اتفاق "الشراكة الاستراتيجية المعمقة"، وإشادتها بالتعاون العسكري التاريخي مع الجزائر، فنظرياً اتفاق الشراكة الاستراتيجي يقتضي التعاون والتنسيق في كل القضايا الحيوية وقضايا الأمن القومي، لكن سلوك روسيا وتحركاتها في عمق أمني واستراتيجي بالغ الحيوية بالنسبة للجزائر كمنطقة الساحل أو في ليبيا يناقض مبدأ الشراكة تماماً حيث نسجل أن روسيا تتحرك وتنفّذ استراتيجيات:
– تهدد أوتعمّق التهديدات الموجهة إلى الجزائر نفسها: فأينما ولّينا وجوهنا نجد روسيا مصطفة آلياً في الحلف المضاد لمصالح الجزائر ومقارباتها للمعالجة والحل، فها هي تدعم اللواء حفتر في ليبيا (الذي هدد الجزائر علانية بالحرب..)، وتغذي خيار الحرب في مالي وفي منطقة الساحل ككل.
– تعمل على إضعاف دور الجزائر الإقليمي: فبسعيها لإعادة تشكيل الخريطة السياسية والأمنية للمنطقة، وتغذيتها للانقسامات المجتمعية فيها، أصبحت علاقة الجزائر بجوارها الحيوي مهددة وألحق ذلك أضراراً جسيمة بمصالحها والتي كان من نتائجها الأزمة الدبلوماسية غير المسبوقة مع كل من النيجر ومالي.
– تستنزفها اقتصادياً وترهقها سياسياً وعسكرياً: فموسكو عبر ما تسميه فيلق أفريقيا (النسخة المستحدثة لمرتزقة فاغنر..) مستمرة في دعم وتشجيع منظومات الحكم الجديدة على الخيار العسكري الذي جرب منذ الستينات ولم يفلح، وهذا يفرض على الجزائر مضاعفة مجهودها الحربي للتعامل مع التطورات المتوقعة من موجات الهجرة، أو من عودة الجماعات الجهادية، وهو ما يمثل تبديداً لثروات كان الأولى صرفها على التنمية، أمكننا تجنبه قبل أن تطأ قدم الروس المنطقة، كما يمثل تهديداً لمكانة الجزائر السياسية ومحاولة لتحييدها، وما دَفْع مراهقي السلطة الجدد لإلغاء اتفاق الجزائر في مالي إلا تأكيد لهذا المسعى الخبيث.
– تحاول خلق معادلات قوة جديدة لإعادة هندسة المنطقة والسيطرة عليها: فبات واضحاً وقفزاً على حقائق التاريخ والجغرافيا عمل موسكو على خلق قوى جديدة وتوفير موطئ قدم لقوى ذات توجه عدائي للجزائر، فأنظمة وظيفية تبعد بآلاف الأميال عن منطقة الساحل نعجز عن تحديد نياتها الحسنة برعايتها لمرتزقة فاغنر وسعيها الدائم لإشعال الحروب.
ثانياً: الخلل في سياساتنا.
في تقديري؛ الوضع القلق في حدودنا والذي تحول إلى تهديد هو نتاج السياسة الخارجية التي اعتمدت على مدار عقدين من الزمن في ظل حكم "آل بوتفليقة" (خاصة بعد 2013) والتي جعلت الجزائر تعيش في وهم " القوة الإقليمية" فلم تحصل لا على التزامات، ولا على اعترافات بدورها، ولا حتى على الاحترام الذي تستحقه كأمة واستمر الخلل بعد ذلك بـ:
1- القراءة القاصرة للتطورات الحاصلة في منطقة الساحل، خاصة التغير الكبير في النخب الحاكمة المستقوية بروسيا والتي غلب عليها الحماس رافقه إفلاس سياسي ودبلوماسي باتت تعيشه دول الجوار الإقليمي، كان يفترض على منظري سياساتنا الخارجية أن يتكيفوا معه ويعملوا على تغيير إعدادات التعامل السياسي والدبلوماسي مع أمراء البلاط الجدد.
2- انعدام تصور استباقي لكيفية ملء الفراغ الذي سيخلفه الانسحاب الفرنسي، فإذا كان الذكي من يجد الحلول المناسبة عند وقوع الأزمات فإن الحكيم من يحسن القراءة ويتجنب وقوعها أصلاً، وفي غياب سياسة استشرافية فاعلة كان من السهل على دولة قوية كروسيا تمتلك الإمكانيات اللازمة والتصور الواضح أن تستغل الوضع برفقة الأنظمة الوظيفية التي تلعب أدواراً أقل ما يقال عنها إنها مشبوهة.
3- التقييم الخاطئ لطبيعة العلاقة مع روسيا، الظاهر أن الماسكين بملف موسكو يتعاملون بعاطفة مَعيبة لا مجال لها في السياسة بين الدول، ربما مردها تشبعهم بأيديولوجيات قديمة عفى عنها الزمن، وإلا بماذا يفسر عجزهم عن رؤية طبيعة تعامل روسيا مع الجزائر والتي يمكن أن نجملها فيما يلي:
– موسكو لم تطور علاقتها مع الجزائر على الحقيقة وما زالت تنظر إليها كزبون سلاح وفقط، ومن مؤشرات ذلك عدم نقل التكنولوجيا العسكرية بخلاف دول وضعها مشابه لوضعنا ساعدتها حتى على امتلاك قوة الردع.
– يظهر أنها مطمئنة إلى أن الجزائر ليست مستعدة ولا قادرة على الخروج عن خط ثابت في سياساتها الخارجية كثيراً ما أعلنه وافتخر به مسؤولونا، والذي من صوره أنها لا تغير مواقعها بسهولة.
– ترى أن الدول التي ترافقها وترعى أحلافها في كامل المنطقة أهم وأنفع لاستراتيجياتها من الجزائر، وهي دول في تقديرنا تلعب أدواراً وظيفية متقدمة لصالح الاحتلال الإسرائيلي، وما قصة صفة الملاحظ في الاتحاد الأفريقي ببعيدة عنا.
فلو عددنا بعض ضرباتها لوجدنا أن روسيا الحليف الاستراتيجي هي من خانت الجزائر، كم من مرة بصفقات سلاح فاسدة (أشهرها صفقة طائرات الميغ 29 ..)، وهي من خانت عهودها وتخلت عن الجزائر في ملف الانضمام إلى مجموعة البريكس، وهي من تدعم وتقوي التحالفات والتحركات المضادة وحتى المعادية للجزائر في جوارها الاستراتيجي.
ثالثاً: كيف نتعامل؟
أمام هذه الصورة القاتمة لثقتنا الساذجة فيمن يدعون أنهم شركاؤنا، على الجزائر أن تحدث تغييراً جذرياً في خياراتها الدبلوماسية يكون محورها الأساس مصالح الجزائر خاصة مع الدول التي لا تلتقي معها على قيم أو مبادئ مشتركة، فروسيا في حقيقتها دولة استعمارية لا تختلف عن الغرب يدل على ذلك تاريخها ومساحتها (17 مليون كم2 )، تأخرت عن دول الاستعمار الحديث فقط بسبب موقعها المغلق وبالتالي ضعفها كقوة بحرية، وأقل ما يجب علينا:
– أن نعاملها بالمثل، فمن لا يراعي مصالحنا وأمننا لا نراعي مصالحه ولا أمنه، فمن الغباء أن نعادي الغرب ونضيع مصالحنا معه دعماً لروسيا في غزوها لأوكرانيا. وصل التهديد إلى حد مطالبة مشرعين أمريكيين بإدراج الجزائر تحت قانون "محاسبة أعداء أمريكا؛ لتقابل روسيا إحساننا بالإساءة وتهدد أمننا واستقرارنا.
– تبني سياسة دبلوماسية جديدة مرنة وشجاعة لا نكتفي فيها بالدورالثانوي، بل بالدفع بذكاء نحو تحقيق مصالحنا وفرض رؤانا للمعالجة وخاصة في جوارنا وهي شبيهة ربما في جرأتها بالسياسة التي سجلناها مؤخراً في تعامل الجزائر الحازم مع فرنسا، إسبانيا، المغرب والإمارات، فسياسة الصمت والتغاضى عن التحركات الروسية لم تسمح لنا بالحصول على استثمارات مجزية، ولا على اعتراف بتضحياتنا، ولا على تحالفات حقيقية، ولا حتى على الاحترام الذي نستحقه كأمة، وهذا يعني تجديد الجهاز الدبلوماسي المكلف بملف الساحل ودول الصحراء.
فالعالم يقدرك ويحسب لك ألف حساب إن كان بإمكانك الدفاع عن أمنك ومصالحك، غير ذلك سيتجاوزك ويعتبرك كماً مهملاً، ولنا في المقاومة الفلسطينية خير مثال، فها هي تتجاوز بشجاعة نادرة حدود ما يسمح به النظام الدولي فتعيد بذلك إحياء قضيتها وتفرض على الأعداء التنازل تلو التنازل.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.