تزايد عدد الدول الأوروبية التي اعترفت بالدولة الفلسطينية، ويبدو أن الخطوة تمت بالتنسيق مع واشنطن للتخفيف من حنق الرأي العام الدولي على ضلوع الغرب مع إسرائيل في حملة الإبادة، وما يبدو واضحاً من تحدي واشنطن وإسرائيل لكل القانون الدولي الإنساني، وهي التي تعتز بأنها امتداد للحضارة الغربية، ويبدو لنا أن الاعتراف بالدولة الفلسطينية هو غيرة على وجود إسرائيل لأن إبادة إسرائيل للفلسطينيين أقنعتهم بأنهم وحدهم أصحاب الأرض، ومادام المشروع الصهيوني يسعى للانفراد بفلسطين، فقد ثبت للفلسطينيين أن تضحياتهم ووحشية إسرائيل تجعل التعايش بينهما مستحيلاً، وأن أصحاب الأرض أولى بأرضهم، ولذلك قد تفكر أوروبا في إحياء قرار التقسيم.
إن جوهر المشروع الصهيوني هو الاستيلاء على كل فلسطين وإبادة أهلها، لذلك لا تعترف إسرائيل بأن الشعب الفلسطيني شعب، وأنهم ينتمون إلى العرق البشري، بل قالوا صراحة إنهم حيوانات بشرية، وطبقاً لتعميمات توراتهم المزيفة لا بد من التخلص منهم بأبشع الطرق، وتلك قربى إلى الله وليست جريمة، يضاف إلى ذلك أن نتنياهو خرج عام 2020 بنظريتين وثيقتي الصلة بالمشروع الصهيوني الأولى تقضي بأن فلسطين كانت ملكاً للصهاينة، علماً بأن الصهاينة هم الذين انخرطوا في المشروع الصهيوني ولا علاقة لهم باليهودية أو بأي شريعة سماوية، ويتسترون فقط باليهودية، علماً بأن إسرائيل تصنف على أنها دولة علمانية، ومع ذلك يحرص ساستها على أن تكون دولة دينية خالصة مع كراهيتهم للمتطرفين دينياً وفقاً للتوراة المزورة.
وفي مؤتمر للتوفيق بين الأديان في مدريد، وهو إحدى سلاسل المؤتمرات الدولية التي رتبتها السعودية في أواخر القرن الماضي، حيث كان مؤتمراً يضم اليهود والنصارى والسيخ والمعتقدات الأرضية المختلفة، وعنوان المؤتمر شأن كل المؤتمرات الأخرى في هذه السلسلة هو توحيد العقائد والأديان، ولذلك فالعقيدة الحالية التي ظهرت بها الإمارات وظهرت بها إسرائيل عام 2021 في سلسلة المعاهدات التي أسمتها بالإبراهمية، وأظهر شيخ الأزهر فتوى ببطلان هذا الاجتهاد، وأكد أن الشرائع السماوية صادرة عن الله سبحانه وتعالى ولا يجوز مطلقاً إلغاء هذه الشرائح بحجة أن إبراهيم أبو الأنبياء، واستشهد بآيتين في القرآن الكريم دالتين على مقصده، الأولى: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين).
والآية الثانية تقررت عدة مرات في مخاطبة الرسول صلى الله عليه وسلم أمام الكفار واليهود، حيث قال سبحانه وتعالى: (مصدقاً لما معه)، أي إنه ليس هناك جديد في هذه الشرائع وإنما بيّن القرآن الكريم أن الشرائع اليهودية والنصرانية جزء من الشريعة الإسلامية، بدليل أن القرآن الكريم أشار إلى أن إبراهيم هو الذى سمانا مسلمين ليكون النبي شهيداً علينا ونكون شهداء على الناس، علماً بأن القرآن الكريم أشار صراحة بأن الرسول في كل أمة هو إمامها ويتقدمها يوم القيامة، ونص صراحة على أنه بعث رسولاً لكل أمة لقوله تعالى: (وما من أمة إلا خلا فيها نذير)، والنذير والبشير هو رسول هذه الأمة، وقد ذُكر الرسول مراراً في القرآن الكريم، إشارة إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأشار مرة واحدة بكلمة الرسول إلى صالح عليه السلام لقوله تعالى: (فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها).
النظرية الثانية هى أن الصهاينة لابد أن يكونوا جيشاً قوياً يؤمّنهم في فلسطين ويضمن جرأة استيلائهم على كل الأرض، ويضمن إبادتهم لكل السكان، وزعم نتنياهو أن هذه الإبادة هى تقرُّب إلى الله، وقد سألت الحاخام الأكبر في مؤتمر مدريد عن الفرق بين الصهيونية واليهودية فأكد أن اليهودية في خدمة الصهيونية، وأن خدمة إسرائيل واجب توراتي، ومعنى ذلك أن الصهاينة يتمسحون في اليهودية ويتسترون بها، ولذلك أصدر الكنيست الإسرائيلى تشريع الدولة اليهودية عام 2017 وذكر صراحة أن فلسطين تم تقسيمها بين العرب واليهود، واستدل شارون بكلمة اليهود في قرار التقسيم، وذلك في كلمته في القمة المحدودة في مدينة العقبة عام 2003، ويترتب على ذلك أن تثبيت الشعب الفلسطيني في أرضه والاعتراف بدولته يعتبر إهداراً وإبطالاً للمشروع الصهيوني.
ويترتب على الاعتراف الآثار القانونية الآتية:
الأثر الأول: أن موجات الاعتراف الثالثة كانت فرامل في وجه تمدد ونمو المشروع الصهيوني، وهذه الموجات الثلاثة أحدثتها الموجة الحالية، حيث اعترفت النرويج وإسبانيا وأيرلندا في مايو 2024، وكانت خمس دول أوروبية تتقدمها السويد قد اعترفت عام 2023، فأغلب دول الاتحاد الأوروبي اعترفت بالدولة الفلسطينية، ولكن خوفها من الولايات المتحدة جعل الأعضاء غير الدائمين في مجلس الأمن يمتنعون عن التصويت في المجلس على مشروع القرار الذي قدمته الجزائر في الأسبوع الأول من مايو 2024، وتقصد كسب عضوية الأمم المتحدة لدولة فلسطين.
أما الموجتان السابقتان من الاعتراف فهما الموجة الأولى في العالم العربى والإسلامى عام 1964 في أول قمة عربية في القاهرة، وبالفعل تبادلت الدول العربية والإسلامية العلاقات الدبلوماسية وأنشأت البعثات الدبلوماسية لها ولفلسطين حسب الظروف. والموجة الأولى مهّد لها الرئيس عرفات عام 1988، حيث اعترف المجلس الوطنى الفلسطيني بقرار التقسيم وبتعديل ميثاق منظمة التحرير بحيث شطب منه إزالة إسرائيل، وذلك في دورة المجلس في الجزائر في ذلك العام، وفي نهاية العام حصل عرفات على قرار من الجمعية العامة بالاعتراف بالدولة الفلسطينية.
أما الموجة الثانية التي مهّد لها عرفات فبدأت في عام 2012 عندما أصدرت الجمعية العامة قراراً بقبول فلسطين عضواً مراقباً في المنظمة الدولية، وهناك فرق فني بين العضو المراقب والعضو العادي.
الأثر الثاني: هو أن اتساع الاعتراف ينال من الظاهرة الصهيونية باعتبارها ظاهرة إجرامية لا تقوم على الأخلاق ولا القانون، وتتجاوز الظاهرة الاستعمارية، لأن الاستعمار كان لا يعترف بالشعوب المستعمرة ولكن يدعي أنه جاء إليها لينقلها من البربرية إلى الحضارة، ولكن في نهاية المطاف لم يدعِ ملكية أراضي المستعمرات، لهذه الأسباب ليست إسرائيل دولة مستعمرة فحسب، بل دولة مافياوية تقوم على تجمع اللصوص في فلسطين، وولدت خارج رحم القانون الدولي الذي وضعه الغرب.
الأثر الثالث: أن اتساع الاعتراف يثبت الفلسطينيين في أرضهم، ولذلك نلمح تفاوتاً في رد فعل حماس ورد فعل السلطة الوطنية الفلسطينية على هذا الاعتراف، فقد شكرت السلطة الدول المعترفة، بينما أشارت حماس بصدق إلى أن الاعتراف يثبت الشعب الفلسطيني في أرضه ويدحض مقولة المشروع الصهيوني.
الأثر الرابع: أنه من الناحية النظرية فإن الاعتراف يعني تأكيد قرار التقسيم، وليت الدول المعترفة تطبق القرار تطبيقاً عرفياً، ولفت نظري في تصريح وزير خارجية النرويج أن القدس الموحدة الواحدة عاصمة الدولتين.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.